لا تحتاج إلى عمر مديد لكى تخلد ذكراك فى سجلات التاريخ وترسخ بطولاتك فى أذهان الشعوب وينحنى لك احتراما العدو قبل الصديق، والأمر لا يحتاج إلى العودة كثيرا إلى الوراء لسبر أغوار الماضى من أجل التفتيش عن نماذج مضيئة سطرت أمجاد لن تنمحى، خاصة وأن اليوم يواكب ذكرى رحيل البطل الفلسطينى والمجاهد الفذ يحيى عياش.

عياش الذى إرتقى شهيدا فى 5 يناير 1996 دون أن يكمل بعد عامه الـ 30 لا يمكن الحديث عن المقاومة الفلسطينية دون أن يتم افساح المجال لسرد بطولات الرجل ذو الألف وجه، والذى وصفته قوات الاحتلال الصهيوني بـ"الثعلب" وأنحنى أمامه قاتله بعدما كان على مدار 10 سنوات رقما صعبا فى معادلة الصراع الفلسطينى الإسرائيلي.

ولد يحيي عبد اللطيف عياش، فى 6 مايو 1966، بقرية رافات جنوب غرب مدينة نابلس بالضفة المحتلة، ودرس بها حتى أنهى الثانوية العامة بتفوق ليلتحق بجامعة بيرزيت، وتخرج من كلية الهندسة قسم الهندسة الكهربائية في عام 1988، بعد أن برز خلال سنوات دراسته كأحد العقليات الفذة.

انضم يحيى –أبو البراء ويحيي- في الجامعة للحركة الطلابية الإسلامية التابعة لحركة لحماس، وانتظم في صفوف الحركة، وأظهر من البذل والعطاء للقضية والوطن مع الانتفاضة الأولى فى 87 قبل أن يكمل عامه الـ 21 ما جعله يترقى سريعاً في سلك الحركة، حيث نشط في صفوف كتائب عز الدين القسام منذ مطلع عام 1990، وتركز نشاطه في مجال تركيب العبوات الناسفة من مواد أولية متوفرة في الأراضي الفلسطينية، وعقب مذبحة المسجد الإبراهيمي في فبراير 1994 طور أسلوبًا بالهجمات سمى "العمليات الاستشهادية"، واعتبر مسؤولاً وقتها عن سلسلة من هذا النوع من الهجمات، مما جعله على رأس المطلوبين للصهاينة بل كان يحيى هو العدو والمطلوب الأول.

المطلوب رقم 1 أسس كتيبة كبيرة من الاستشهاديين، حيث كان يقوم عياش بتجهيز العبوات الناسفة والمتفجرات، وتسليمها للاستشهاديين، ليقوموا بتفجير أنفسهم، في قلب إسرائيل رداً على مجازر الاحتلال الإسرائيلي، بعدما تغلب على مشكلة شح الإمكانات المتوفرة وندرة المواد المتفجرة، بتصنيع هذه العبوات من المواد الكيماوية الأولية التي تتوفر بكثرة في الصيدليات ومحلات بيع الأدوية والمستحضرات الطبية؛ ودشن العملية الأولى بتجهيز السيارة المفخخة في رامات أفعال.

تلك العملية التى لم يكتب لها النجاح بعدما كشف الصهاينة السيارة المفخخة قبل التفجير وألقى القبض على عناصر من المقاومة، كانت الخيط الذى توصل منه الصهاينة إلى اسم مهندس العمليات ليُطرح  اسم يحيى عياش في قائمة المطلوبين لدي العدو الصهيوني للمرة الأولى.

هذا الطرح لم يغير من الواقع شيئا بل بقي عياش طيفا لا يلاحقه الاحتلال الصهيوني، ونجح فى التخطيط لعشرات العمليات ضد جيش العدو، بل وأحدث تغيرا جذريا فى مشهد الصراع بعدما استطاع أن ينقل المعركة إلى قلب المناطق الآمنة داخل إسرائيل مخترقا الأجهزة الأمنية الصهيونية التى ظنت أنه تسيطر على الوضع تماماً، ونفذ مقاتلو حماس بتخطيط منه عدداً من العمليات المهمة والمؤثرة، كبدت الإسرائيليين خسائرا بشرية ومادية ضخمة بلغت 84 قتيلا ومئات المصابين.

ومع براعة عياش فى زلزلة الكيان وملاحقة زبانيته، انتزع المهندس العبقرى كلمات الانبهار من ألد أعداءه بعدما خرج موشيه شاحل وزير الأمن الداخلي السابق ليقول: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عياش إلا بالمعجزة، فدولة "إسرائيل" بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حلًا لتهديداته".

جهاز المخابرات الإسرائيلي “الشاباك” طارد المهندس العبقرى لعدة سنوات، إلا أن قدرته على التخفى والتنقل والاختباء جعلت أسمه الحركى لدى استخبارات الصهاينة "الثعلب"، ما دفع رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إسحاق رابين للحديث عن قدرات عياش، قائلا: "لا شك أن المهندس يمتلك قدراتٍ خارقةً لا يملكها غيره، وأن استمرار وجوده طليقًا يُمثل خطرًا داهمًا على أمن "إسرائيل" واستقرارها".

وسخر الصهاينة لاغتياله مئات من العملاء والمخبرين إلى أن استطاعوا اغتياله فى الـ 5 من يناير 1996 بزرع عبوة ناسفة فى هاتف محمول كان يستخدمه بعد خيانة أحد المقربين منه، وقد نفذت كتائب القسام سلسلة من الهجمات ثأرًا ليحيى أدت إلى مصرع نحو 70 صهيونيًا وجرح مئات آخرين. 
9 سنوات فقط هى عمر مهندس العمليات التى زعزعت الكيان الصهيونى، و29 عاما فقط هى كل ما عاشه البطل المجاهد، إلا أنها كانت سنوات فارقات فى عمر الصراع، وهو الدرس الذى ترسخ فى أذهان رجال المقاومة، وباتت كلماته "مستحيل أن أغادر فلسطين، فقد نذرت نفسي لله ثم لهذا الدين، إما نصر أو استشهاد، إن الحرب ضد الكيان الصهيوني يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كل أرض فلسطين" هى النبراس الذى يضئ طريق المقاومة ضد الكيان الصهيوني.