18/ 05 /2010

بقلم : الزهراء خيرت الشاطر

ما زلتُ أذكر المرة الأولى التي كتبت فيها لاستنكار هذا الاعتقال الغاشم الذي استهدف كوكبةً بارزةً من خيرة أبناء هذا الوطن.. يومها لم أكن أظن أبدًا أن أعوامًا طويلة ستمضي وتمر وما زلنا نعيش هذا الكابوس الأليم، وما زال أبي وإخوانه قابعين خلف أسوار هذا الظلم الشديد.. ولله الأمر من قبل ومن بعد نحمده على كل حال.. نحمده أن جعلنا من فريق المظلومين المضحين لا من فريق الظالمين المعتدين، فالدنيا زائلة وفانية ومحكمة الآخرة التي لن يفلت منها أحد لا محال آتية.
 
مرت قرابة أربعة أعوام وها أنا أكتب من جديد، وقد امتزجت بداخلي المشاعر.. مشاعر الفخر بهذا الرجل الذي أنتسب إليه وأحمل اسمه وسام شرف على صدري.. هذا الرجل الذي يقدِّم كل يوم بصبره وتضحيته ونضاله دليلاً عمليًّا دامغًا على حقيقة إيمانه بالغاية التي عاش من أجلها وهي بناء مشروع حضاري لنهضة أمته، وبرهانًا ساطعًا على مصداقيته في المبادئ التي آمن بها ودعا لها.. هذه المبادئ التي يدفع من أجلها اليوم ثمنًا غاليًا وضريبة باهظة ثم لا تراه بعد ذلك إلا صابرًا محتسبًا داعيًا ومحفزًا لنا ولكل من حوله على الاستمرار في العمل من أجل نهضة هذا الوطن، ورفعة شأنه ورفع رايته.
 
في الوقت ذاته تتملكني مشاعر الألم والحزن الدفين ونحن نمر هذا الشهر بذكرى هذه الجريمة الشنيعة التي سجلت بأسطر من الظلم وحروف من الاستبداد صفحات دامية من الألم والمعاناة والحرمان.. بل سجلت وبحق وصمة عار على جبين هذا الوطن.. هذا الوطن الذي يكيل بأبنائه الشرفاء الذين قدموا له الغالي والنفيس، والذين حمل تاريخُ كل منهم سجلاً حافلاً بالإنجازات والإسهامات في سبيل بنائه ونهضته.. وبدلاً من أن يدفع بهم إلى منصات التكريم كما هو الحال في أغلب البلدان المتقدمة يزج بهم في زنازين حقيرة.. ويلقي بهم في غياهب السجون.. لا لذنب جنوه أو لجرم فعلوه.. بينما المجرمون ينعمون ولا يحاسبون بعدما القانون غاب.. وحكمنا منطق الغاب.
 
إنه ليعتصرني وأسرتي هذه الأيام ألمًا أعمق وحزنًا أشد؛ لأننا هذه الأيام لا نعيش ذكرى هذه الأحكام الجائرة فحسب ولا مناسبة مرور قرابة أربعة أعوام على هذا الاعتقال الغاشم إنما أيضًا مرور عشرة أعوام كاملة على حبس والدي م. خيرت الشاطر، بل إن العام الحادي عشر قد أوشك على التمام.. عشر سنوات ويا لها من كلمة.. واحسرتاه فما فعل الظالمون بنا.. إن كلماتي لتعجز عن الوصف، وإن لساني ليعجز عن التعبير.. كيف أصف مشاهد حزن تزاحمت ومشاعر ألم تأججت.. وحال قلوب لجئت لله واشتكت.. كيف أحكي عن أيام طويلة رَفَعَت فيها الأيدي أكفها.. واحتسبت عند الله جل همها.. وذرفت بليل حر دمعها... والله إن الكلمات لتعجز عن وصفها.. حقًّا لقد جاوز الظالمون المدى.. حتى احترت ماذا أكتب.. فهل أكتب عن الزوجة التي توالت عليها الصدمات وتكررت عليها الأزمات فعانت طويلاً وتحملت كثيرًا وقد حُرِمَت زوجها وسندها.. أم عن الأم التي قُهِرَت وحرمت ابنها وفلذة كبدها.. هل أحكي كيف عانى الأبناء.. أم كيف فارق الآباء.. كيف تزوجت بدونه البنات؟ أم كيف وُلد بعيدًا عنه الأحفاد.. لقد رزق الله أبي أيها السادة 8 من البنات ليس منهم واحدة إلا وكانت خطبتها أو زواجها أو عقد قرانها دون والدها أو جميع هذه المناسبات مجتمعة وقد حرمهما الظالمون أن يكونا معًا، ورُزق بـ 16 حفيدًا وحفيدةً لم يحضر سوى إنجاب 2 منهم، حتى إن معظم هؤلاء الأحفاد لم يرونه ولو مرة واحدة داخل جدران المنزل وليس الزواج والإنجاب فحسب بل كبر الأبناء وقد حرم من أن يكون معهم في أغلب المحطات المهمة في حياتهم من امتحانات لنتيجة دخول الجامعات.. لحفلات التخرج.. مرت الأيام وهو بعيد حتى صار الطفل شابًّا وصار الشاب شيخًا.. أم هل أحكي عن آباء صارعوا المرض طويلاً ورفعوا أيديهم كثيرًا آملين في البقاء.. رغبةً في اللقاء ثم آثروا الرحيل ليشتكوا ظلم العباد لرب العباد، وليكون لقاء أبي بهم وهم في الأكفان.. هل أحكي عن الأمان الذي فقدناه أم عن الفرح الذي حرمناه.. 10 من رمضان أو تزيد، و20 عيدًا تشهد.
 
هل أحكي وما أقسى أن أحكي عن هذا القلب الذي اتسع دومًا ليحمل هموم هذه الأمة جنبًا إلى همومنا.. هذا القلب الذي انشغل دومًا بأن يسري عن الآخرين ويستوعبهم حتى عندما يكون في أحوج الأوقات التي يحتاج فيها من يسري عنه.. هذا القلب الذي اعتاد أن يحمل هموم الآخرين قبل همه.. ما أقسى أن يخبرنا الطبيب أن هذا القلب يتألم وقد ضعفت عضلته وقلَّت كفاءته ما أقسى أن نجد والدي وهو يعاني من أمراض عديدة يجلس بعيدًا عنا في زنزانة بعيدة ونحن مكتوفي الأيدي ولا نملك أن نقدم له شيئًا.
 
أم هل أحكي عن أحداث تكررت وكروب توالت، هل أحكي عن الاعتقال الرابع أم الأول أم الثاني.. عن الهجوم البربري وكيف بتنا نفقد الأمان في كل الليالي.. هل أحدثكم عن المحكمة العسكرية الأولى وصدمتها.. أم المحكمة الثانية وفداحة مصيبتها.. هل أحكي عن الجلسات السرية أم عن المهازل المسرحية.
 
هل أحكي عن الإفراجات الأربعة وكيف سرقوها أم عن فرحتنا وكيف اغتالوها.. وكيف تحول الإفراج من محكمة مدنية للإحالة لمحكمة عسكرية.
 
لا والله لن أحكي عن هذا أو ذاك فإن معاناة أبي ومعاناتنا لفقده أكثر من 10 كاملة لحمل تنوء لحمله الكلمات ولا تتسع له الصفحات.. تعجز عن نقله السطور وتضيق في وصفه المقالات.. لله وحده نشكو همنا فهو المطلع على حالنا نفوض له أمرنا، ونشكو له ضعفنا، ونحتسب عنده ألمنا، كما نحتسب عنده هذه الأعوام الطويلة بل أيامها بكل لحظاتها.
 
إنما أردت بكلماتي أن أوجه سؤالاً لمن ظلم أبي وظلمنا سؤالاً واحدًا يشبه سؤالاً سألته أسماء بنت أبي بكر من قبل.. أما آن لهذا الفارس الأسير أن يتحرر؟ أما آن لهذا الكابوس أن ينتهي؟ أما آن لهذه الخصومة الفاجرة وهذا الظلم المتعنت أن يتوقف؟ هذه الخصومة الفاجرة تجاه شخص والدي م. خيرت الشاطر، والتي تمثل دليلاً ساطعًا على مدى استبداد هذا النظام وظلمه، ومدى تنكيله بالشرفاء من هذا الوطن، نرى هذه الخصومة الفاجرة وهذا التعنت في الظلم ونحن نرى أن م. خيرت الشاطر هو أكثر سجين رأي تم حبسه من حيث طول إجمالي المدد التي حبس فيها في ظل هذا النظام، فلقد أوشك على إتمام عامه الـ11، وهو الذي لم يرتكب جرمًا أو عنفًا، ولم يُسجن ولم يُخطف من بيننا إلا من أجل فكره وآرائه التي شهد الجميع بوسطيتها واعتدالها.
 
ونرى هذه الخصومة الفاجرة أيضًا عندما نرى أنه أكثر سجناء الرأي حصولاً على أعلى الأحكام في ظل هذا النظام.. وبالطبع كما تعلمون من محكمة عسكرية؛ حيث لم يتم إدانته ولا مرة أمام القضاء المدني؛ حيث إن أبي حصل على أعلى حكم في قضية 95 بحصوله على 5 سنوات، وأعلى حكم في القضية الأخيرة بحصوله على 6 سنوات.. ليحصل على مجموع أحكام 12 عامًا.
 
هذه الخصومة الفاجرة تظهر أيضًا جلية عندما يكون أول سجين رأي في مصر تُصادر أمواله ويحفظ على شركاته، وهذا لم يكن وحسب في هذه القضية بل أولاً في قضية سلسبيل عام 1992م، وهو الذي لم يدفع يومًا رشوة ولم يسرق يومًا من المال العام، بل وهو الذي شهد له الجميع بالعقلية الاقتصادية ولمشاريعه بالأغراض النفعية وليس فقط الربحية.. فهو الذي سعى لتصنيع البرمجيات، وفتح الشركات وجلب لوطنه العديد من الاستثمارات.. لتكون مكافأته ورد الجميل له الاعتقال والمحاكمات.
 
وتتجلى هذه الخصومة الفاجرة في أبشع صورها في تسيس القضاء.. وقد بدأ هذا مع أبي عندما أحيل عام 95 لمحكمة عسكرية، والكل يعلم ما تعنيه هذه المحكمة فطعن أمام المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية إحالة رئيس الجمهورية في المدنية للمحاكم العسكرية، وترك الطعن في الإدراج ولم يبت فيه، فتحمل جراء ذلك أن يسجن 5 سنوات كاملة، ثم ازدادت المأساة بإحالته مرة أخرى على نفس التهمة لمحكمة عسكرية ثانية عام 2006م، والأمر إن ذلك كان بعد عدم تنفيذ الدولة لأحكام القضاء المدني التي صدرت ببراءته بل وطالب بالإفراج الفوري عنه.. وعندما أُحيل للمرة الثانية تقدم بطعن ثانٍ إلى جهة أخرى ربما ينجح في رفع هذا الظلم الفادح وهي المحكمة الإدارية بمجلس الدولة فقضت بالحكم التاريخي بعدم أحقية رئيس الجمهورية بإحالته ومن مع كمدنين لمحكمة عسكرية، وكالعادة المؤلمة لم تحترم أحكام القضاء ولم تنفذ وتم إحالة الحكم للإدارية العليا رغم أن القانون يوجب الإفراج عنه وعدم الانتظار، وكانت الكارثة بأن قررت الإدارية العليا وقف النظر في الطعن وتعليق القضية لحين فصل المحكمة الدستورية في الطعن المرفوع والموضوع بالإدراج منذ عام 1995م؛ ما يعني أن يقضي 7 سنوات أخرى دون أي تحرك للدستورية في فصل القضية، وصرخت الأصوات المظلومة وبحت أصوات المحامين لماذا يؤجل تنفيذ قرار الإدارية لحين انتظار الدستورية، ولا يتم وقف وتأجيل حكم المحكمة العسكرية لحين بت الدستورية، فماذا لو حكمت المحكمة الدستورية بعد 12عامًا قضاها ظلمًا بالحكم الطبيعي والقانوني ألا يحال المدنيين للمحكمة العسكرية في الوقت الذي يحال فيه الجواسيس للمحاكمة المدنية.
 
وهل هناك فجر في الخصومة أكثر من أن يُسجن كل هذه الأعوام دون أن يُقدم دليلٌ واحدٌ على إدانته، لقد تحدى أبي في قاعة المحكمة العسكرية شاهد أمن الدولة أمام القاضي العسكري.
 
وطلب منه أن يقدم ولو دليلاً واحدًا ضدَّه فرد القاضي هادئًا بعد أن عجز الشاهد عن الرد في موقف تعجز الكلمات عن وصفه "لا يوجد دليل ضدك يا بشمهندس" وما زال أبي يتحدى أن يقدم أحدٌ دليلاً واحدًا يثبت إدانته في أي تهمة.. فالأمر كله لا يقوم إلا على تحريات واهية، وتهم هزلية لا يثبت لها أي دليل.
 
إن هذه الخصومة الفاجرة وهذا الظلم المتعنت يدفعني للتساؤل لماذا خيرت الشاطر؟ ماذا فعل ليستحق هذا العداء؟ وماذا جنا ليستحق هذه الخصومة الفاجرة وقد وصفه الجميع بالشخصية التوافقية، وهو الذي لم يستفز أحدًا ولم يعادي أحدًا، ولم يترشح أو يسعى لمنصب يومًا، والذي سعى للتواصل والحوار دومًا.

أيها السادة.. مَن كان يسأل عن استقلال القضاء فلينظر لخيرت الشاطر.

من كان يسأل عن حقوق الإنسان فليسأل عن خيرت الشاطر.

من كان يسأل عن الحريات في عهد هذا النظام فلينظر لخيرت الشاطر.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كلَّ من تعاون معنا أو وقف بجوارنا أو سعى لرفع الظلم عنا.
 
أما هؤلاء الذين يشاهدون هذه الجريمة في صمت فأقول لهم: لا تزينوا بصمتكم عجزنا.. لا تشاركوا بسلبيتكم في ظلمنا... لا تحملوا بسكوتكم وزرنا.

ولله نفوض أمرنا وعليه دومًا اتكالنا فهو حسبنا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته