14/12/2009
د. محيي حامد
استكمالاً للمقال السابق الذي تناول مفهوم الإصلاح، ومنهج الإسلام، ورؤية الإخوان المسلمين لإحداث التغيير المنشود والإصلاح الشامل ونهضة الأمة الإسلامية؛ للوصول إلى تحقيق المشروع الحضاري للأمة، ويتناول هذا المقال الشبهات المثارة حول الإصلاح وموقف الإخوان منها، كما عبَّر الإمام البنا رضوان الله عليه في رسائله، كما يتناول الواجبات المنوطة بأفراد الأمة لتحقيق الإصلاح والنهوض.
رابعًا: شبهات مثارة حول الإصلاح:
ربما قد يُثار من حين لآخر بعض الآراء والمفاهيم الخاطئة حول الإصلاح، وقد تتبنَّاها وسائل الإعلام وبعض الأقلام في محاولات حثيثة؛ لصرف الأذهان والعقول عن الفهم الصحيح والمنهج القويم الذي تحمله جماعة الإخوان المسلمين لتحقيق الإصلاح المنشود وفق أسس إسلامية، ومن أبرز ما يتردد حاليًّا هو تجزئة الإصلاح إلى سياسي وآخر اجتماعي.. ومطالبة الإخوان المسلمين باختيار إحدى هذه الجوانب، فإما أن تكون جمعية خيرية أو دعوية أو حزبًا سياسيًّا.. إلخ، وربما قد يتم تصوير ما يحدث للإخوان المسلمين من محاولات الإقصاء السياسي أو التحجيم المجتمعي أو الضربات الأمنية المتتالية على أنه بسبب التمسك والإصرار على الإصلاح الشامل في المجالات المتعددة، وفق رؤية الإخوان المسلمين ومنهج الإسلام الأصيل، ولقد أوضح الأمام المؤسس حسن البنا رحمه الله هذا الأمر بكل جلاء ووضوح في مقاله الرائع بعنوان: "الإصلاح وحدة لا تتجزأ"، وهذه بعض مقتطفاته:
* من أخطائنا في الإصلاح العام أننا جزأناه وقسمناه نواحيه تقسيمًا غير طبيعي وغير منطقي، وقد يُقال: إن التجزئة في الإصلاح أعون على الاختصاص؛ وذلك حق، ولكن الخطأ كل الخطأ في أننا وضعنا حواجز حصينة بين مناحي الإصلاح المختلفة، مع أن الوضع الطبيعي أن بعضها يشد أزر بعض.
* لا بد في النهضة من إصلاح النفوس، وإصلاح المجتمعات، وإصلاح الدولة التي تكون رقيبًا على مناحي الإصلاح كله، ولا بد أن تكون الصلة قوية محكمة بين هذه المعاني الثلاث، لا بد أن يكون صلاح النفس أساسًا لصلاح المجتمع، وأن يكون صلاح المجتمع أساسًا لصلاح الدولة.
* ولهذا جاء الإسلام الحنيف منهاجًا كاملاً ينظر إلى الإصلاح نظرة شاملة، فهو يُعِدُّ النفوس بتقوى الله تبارك وتعالى وحسن معرفته والصلة به للإصلاح النفساني الكامل، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾ (الشمس)، ثم يكلف هذه النفوس الصالحة بذاتها أن تقوم على خدمة غيرها، وأن تخوض ميادين الخدمة الاجتماعية ابتغاء مرضاة الله، والناس عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، ثم على هذه الهيئات المتوجهة إلى خدمة المجتمع أن تختار الحكومة الصالحة حتى تسير دائمًا مسدَّدة الخطى إلى طريق الخير والرشاد.
* وتلك هي فكرة الإخوان المسلمين، فكرة تُسْتَمَدُّ من هذا التوجيه الإسلامي، وتعتمد عليه وتسير على نهجه وتصطبغ بصبغته: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: الآية 138)، فمن نظر إلى الإخوان المسلمين في ميدان الإصلاح النفساني قال: طريقة صوفية، وخطة سلفية، وتربية نفسانية، ومن نظر إليهم في ميدان الخدمة الاجتماعية قال: جمعية خيرية، وهيئة إسلامية، وأندية رياضية، ومعسكرات كشفية، ومن طالع نظراتهم في تكوين الدولة ووسائلهم في إصلاح طرائق الحكم قال: حزب سياسي، واتجاه دولي، وكل هذه المعاني والنظرات حقيقتها لا تخرج عن أنها دعوة الإسلام، ومنهاجه الكامل الذي يعالج قضايا الحياة الإنسانية أنفع، ورسم أقوم الخطط ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة).
• فماذا ينكر منَّا الناس وماذا ينقدون؟ لا شيء إلا أنَّنا أَلِفْنَا وضعًا فلم نُرد أن نخرج عليه، وعرفنا نهجًا فلم نشأ أن نغيره، مع أننا لم نجنِ من ورائه سوى هذا التوزيع لقوى الأمة الإسلامية، وهي أمة واحدة يجب أن تتجه إلى مناحي الإصلاح جميعًا، ذلك ما سنثبُت عليه وندعو الناس إليه، ولله عاقبة الأمور ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: الآية 108).
إن هذه الكلمات والعبارات المحددة التي تناولها الإمام البنا رحمه الله واضحة وكافية لكل ما يُثار أو يتردد لتشويه الجماعة، أو صرفها عن المضي قُدُمًا في منهجها الإصلاحي.
خامسًا: واجبات الأفراد لتحقيق الإصلاح:
إن الواجب والمسئولية تجاه وطننا وديننا يُلقي على كاهلنا عبئًا ثقيلاً وأمانةً عظيمةً، تتطلَّب الأخذ بكل الأسباب وطَرْقَ جميع الأبواب، وكل ما استطعنا إليه سبيلاً، ونحن على يقينٍ من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: الآية 69).
ويحدد الإمام البنا رحمه الله الواجب والدور الأساسي للقيام بالإصلاح وتحمل المسئولية بين يدي الله: "وإنَّ من واجبنا- وفي يدنا شعلة النور، وقارورة الدواء- أن نتقدم لنصلح أنفسنا، وندعوَ غيرَنا؛ فإن نجحنا فذاك، وإلا فحسبنا أن نكون قد بلغنا الرسالة وأدَّينا الأمانة، وأردنا الخيرَ للناس، ولا يصحُّ أبدًا أن نحتقر أنفسَنا، فَحسب الذين يحملون الرسالات ويقومون بالدعوات من عوامل النجاح أن يكونوا بها مؤمنين، ولها مخلصين، وفي سبيلها مجاهدين، وأن يكون الزمن ينتظرها، والعالم يترقَّبها، فهل من مجيب..؟! ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)﴾ (سبأ: الآية 46)".
ومن هذه الواجبات الأساسية الآتي:
- وضوح الرؤية حول الإصلاح ومتطلباته.
- التحقق العملي بمقومات الإصلاح وواجباته.
- النهوض بأبناء الأمة في القيام بدورهم في الإصلاح.
- امتلاك مهارات الاتصال، وحسن التخاطب، والقدرة على الإقناع.
- امتلاك روح المبادرة والإقدام في الفكر والعمل.
- المرونة الفكرية وسعة الأفق.
- الأخذ بمبدأ التخطيط في العمل.
- التدرُّج في تغيير الواقع.
- التزام أسلوب الحوار والتشاور مع الآخرين.
- التجديد والتطوير في البرامج والوسائل.
إن من يتتبع حركة الإصلاح على مدار التاريخ يستطيع أن يرصد نماذج للعطاء والبذل والتضحية والفداء من أجل أمة كريمة وشعب حرٍّ يَحيا بالإسلام ويعمل لعزَّته، ومن هذه النماذج المؤثرة في العصر الحديث مجدِّد هذا القرن الإمام الشهيد حسن البنا، والشيخ المجاهد محمد فرغلي، وصاحب الظلال الشهيد سيد قطب، والفقيه القانوني الشهيد عبد القادر عودة، والشهيد محمد يوسف هواش، والشهيد عبد الفتاح إسماعيل، وغيرهم كثير مما لا نعلمهم ولكن الله يعلمهم، أولئك الذين ضحَّوا بكل غالٍ ونفيسٍ في سبيل تحقيق الإصلاح المنشود ونُصرة دينهم ودعوتهم ورِفعة أمتهم، وعلى أثر هولاء يسير عدةٌ من الرجال الصادقين الذين يعطون من أنفسهم القدوة والنموذج لأجيال متعاقبة في العطاء والتضحية حتى يأذن الله بالنصر المبين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* عضو مكتب الإرشاد.