12/11/2009

أ.د. محمد السيد حبيب

الأخ الحبيب

أحييكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد ؛

فإن المقصود بالعظمة هنا هو عمر رضى الله عنه، ثانى الخلفاء الراشدين، وشامة الإسلام وعزه وروعته وبهاؤه، وأعظم رجل فى تاريخ الإسلام بعد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفيه وخليله ... أبو بكر الصديق رضى الله عنه ..

إن ما كتب عن عمر كثير كثير، وما كتبه الباحثون والدارسون وعلماء السياسة والاجتماع والفكر والأدب كله إشادة بتلك الشخصية الفذة التى يندر أن يجود الزمان بمثلها .. فماذا يكتب مثلى ؟ وما الذى يمكن أن يضيفه ؟ إنها إذن مجرد ومضات .. خواطر قلب عاشق ومحب .. مجرد إلقاء شعاع خافت من ضوء على بعض جوانب من شخصية عمر، المثال والنموذج، مع الوضع فى الاعتبار أن شخصية عمر أجل وأعظم من أن يحاط بها كاتب نابه أو كتاب نوابغ، فكيف بمن كان مثلى ؟ فأن تكتب عن عظيم – كعمر – لابد أن تتوافر لديك القدرات والإمكانات التى تستطيع أن تسبر غور هذه العظمة .. أن تكون لديك الأدوات التى تعينك على الاقتراب منها، والإحساس بها، والإدراك العميق لمكامن القوة والنبوغ فيها، ولا أقول ذلك تواضعا منى – أو إظهارا للتواضع – لكنها الحقيقة التى أعلمها عن نفسى وقدراتى، خاصة ونحن أمام هذا الإبهار الضخم الذى اجتمعت فيه كل سمات العظمة .

الأخ الحبيب

من أين نبدأ . لا أدرى .. فأنت أمام دنيا كاملة، فيها بالطبع من ريح الجنة وعبقها وسحرها .. بحار ومحيطات، أنهار وجداول، جبال ووديان، أراض وسماوات، بل مجرات وشموس وكواكب وأقمار .

كان الفاروق قمة فى كل شئ ؟ فى شموخه، وشدته، وحسمه، وحزمه، وعطفه، ورحمته، وعدله، وكرمه، وبذله، وتواضعه، وورعه .. أين نحن منك يا عمر ؟ إن الفارق بيننا وبينك، أنك جالس على القمة، بل أنت القمة ذاتها، أما نحن ففى السفح .. أنك عملاق، أما نحن فأقزام .. وتحضرنى كلمة الآن قرأتها لفقيهنا وعالمنا الجليل الشيخ محمد الغزالى – رحمه الله - يقول : كانت المساجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعة لكن المصلين فيها كانوا عمالقة .. أما الآن فالمساجد عملاقة، لكن المصلين أقزام ..

يا عمر لقد أتعبت كل من جاء بعدك .. أجهدتهم .. لم تترك لهم شيئا جديدا ذا بال يقدمونه لعقيدتهم وأمتهم وأوطانهم .. بل وللبشرية كلها .

فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضى الله كان الصحابة يخافون عمر ويهابونه لشدته وصرامته، وازدادت خشيتهم منه وتملكهم الرعب أن يؤول أمر الخلافة إليه، خاصة فى أواخر أيام الصديق، لكن إمارة المؤمنين فجّرت فى عمر ينابيع جديدة، مناقب أخرى لم تكن ظاهرة من قبل، أو كانت ظاهرة لكنها لم تكن بهذا العمق .. نعم كان المسلمون يعلمون الكثير عن مكانة عمر عند الله تعالى وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان القرآن ينزل مؤيدا لرأيه منحازا لوجهة نظره فى كثير من المواقف الفاصلة فى تاريخ المسلمين وذلك لشفافيته العالية، وتجرده المذهل وزهده النادر، وقلبه المتوهج، ونفسه النقية التقية الزكية، وورعه العجيب، وهو ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : "جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه"، وكيف أن الحبيب المصطفى كان يرى فيه مالا يراه غيره فيصفه بالملهم، ويقول عنه فى خلافته فى رؤيا رآها "فلم أرى عبقريا يفرى فريه"

فى إحدى طرقات المدينة التقى عمر رضى الله عنه قاتل أخيه زيد فى حرب اليمامة، وكان يحبه حبا عظيما، قال عمر للرجل : إنى لا أحبك، فرد الرجل : أو يمنعنى ذلك حقى يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : لا .. قال الرجل .. لا عليك، إنما يأسى على الحب النساء .. لقد كان الرجل "جلفا" فى رده، قاسيا غليظا فى عباراته، لم يراع مشاعر أمير المؤمنين، لكنه كان واثقا من عظمة عمر وعدل عمر .. وتلك هى العظمة فى أحلى وأبهى صورها .

وعن عدله وقوته وصرامته فى إنفاذ الحق، لا نجد أشهر من قصته رضى الله عنه مع القبطى الذى ضربه ابن "الأكرمين" ثم فقهه فى التطبيق، إذ لا عدل إلا إذا نَفَذَ الحق إلى صاحبه، فما معنى أن يحصل الإنسان على حكم لصالحه ثم لا يستطيع تطبيقه؟ وتبقى كلمته الخالدة دستورًا يتردد على ألسنة العالمين : أيا عمرو .. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"

وتبقى كلمة : إن الذين تحدثوا عن عبقرية عمر وعظمة عمر نسوا شيئا مهما هو عبقرية الرعية وعظمة الرعية .. ربما كان ذلك ناشئا عن عبقرية عمر ذاتها التى غطت على ما سواها ..

كما قال الشاعر :

فإنك شمس والملوك كواكب             إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب

لقد كان عمر العظيم يحكم عظماء ويقود عمالقة .. وإن نسينا فلن ننسى هذا الموقف الخالد : لو رأيتم فيّ اعوجاجًا فقومونى .. فيرد عليه أحدهم : والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا .. فلا يغضب عمر .. ولا يضيق ولا يتأذى بل يطرب ويسعد ويُسر لذلك .. ألم أقل لكم إنها العظمة ..

أسأل الله تعالى أن يعلمنا ويفقهنا فى ديننا ويلهمنا الرشد والسداد ؛ وللحديث بقية إن شاء الله ..

والله من وراء القصد ؛

ـــــــــــــــــــــــــــــ

النائب الأول للمرشد العام للإخوان المسلمين