16/04/2009
المصلح الذي عاش في سلام مع نفسه ومع غيره
هذه المقالة هي محاولة ومساهمة متواضعة، كتبناها وفاءً للشيخ في ذكراه الخامسة، وهي أيضًا نوع استجابة لطلبات بعض إخوتنا من الذين أحبوا الشيخ رحمه الله تعالى ولم يدركوه، وحرصوا على معرفة قدرٍ من ميراثه الفكري والتربوي، الذي تركه أمام حركته ورجالاتها لينفذوا من خلاله إلى دوائر إصلاح مجتمعهم والتأثير فيه.
والله أسأل أن يجنبنا الزلل، وأن يجد في مقالنا هذا كل إخواننا وأخواتنا جميعًا ما يفيدهم وينفعهم.
في البداية
أذكر وبأسىً عميقٍ يوم الجمعة الحزينة 20 يونيو "جوان" 2003، التي خرج فيها آلاف المشيعين لجنازته، بعد أن غادَرَنا وارتحل عنا يوم الخميس، ذلك الرجل الكبير الشيخ النحناح، يرحمه الله تعالى، والذي اختلف حول تقييم مساره الكثيرون، وأثارت ممارساته ومواقفه الكثير من الجدل وأسالت الكثير من الحِبر، حول منهجيته وفلسفته في العمل التي جعلته يتعاطى مع الجميع بما في ذلك خصوم الحركة الإسلامية، وجلبت له احترام قطاعات واسعة من المجتمع صاحبتها معارضات قليلة، ومؤقتة حتى من بعض قيادات العمل الإسلامي داخل الوطن وخارجه، وأضافت منهجيته للممارسة السياسية الإسلامية بُعدًا جديدًا لم يكن معهودًا، ونظر إلى الأشخاص والمشاريع والمواقف من الزوايا التي لم يتعود أبناء التيار الإسلامي، والوطني النظر من خلالها، ودعا وفي وقت مبكّر إلى أفكار كانت غريبة، بل مصادمة لما كانت تعتقده طوائف من فعاليات الحركة الإسلامية.
ومن مناقبه رحمه الله تعالى أنه كان شجاعًا جريئًا، وقد حفظ له الجميع اليوم أنه في زمن الفتنة التي هجمت على بلده، والتي سكت فيها بعض العقلاء واحتار، قد تكلّم هو و"قدّم بيانه الواضح وقت الحاجة وبقدرها"، وفلسفته في ذلك أن الأمر بالتحرك عندما يتعلق بتهديد المصلحة العليا لوطنه والحفاظ على أرواح الناس؛ يصير واجبًا أكيدًا، لا مجال لتركه والتهاون فيه، وقد عجز خصومه السياسيون عن الحد من حركته أو الوقوف في طريقها، وعجزت أيضًا بعض الأفكار الساذجة التي كانت ولا تزال تنهك المشروع الإسلامي عن الحد من مشروعه، وتُمكِّن وبكفاءة عالية من نقل أفكاره وإضافاته إلى جميع الأوساط، خصوصًا في المواقع النوعية ليعتنقه كل من أتيحت له فرصة الاطلاع عليه وفهمه؛ لينطلق به بعد ذلك في الآفاق الرحبة والمساحات الواسعة حيث طاف العالم وحضر وحاضر في جُلّ المواقع والمنابر والمناسبات المتعلقة بالفكرة الإسلامية وعلاقاتها مع غيرها.
فكيف صُنع الشيخ النحناح؟ وكيف كمُلت أخلاقه واستوت سلوكياته اليومية؟ وإلام كان يطمح؟ وهل حقّق ما كان يصبو إليه؟.. إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا شك أن تقييم مسار هذا الرجل من خلالها سيتبعه الجدل نفسه الذي كان قائمًا حول مواقفه وممارساته.
وسأحاول بهذه المساهمة الإجابةَ عن بعض تلك الأسئلة، وربما اكتست معانيها في بعض مناحيها قيمة خاصة بحكم موقعي كإطار أتشرف بالعمل إلى جانب هذا الرجل كعضو في ديوانه الخاص، مع اعترافي المسبق أنني لا أستطيع التخلص من جاذبيته، وتأثيره السحري؛ لأتمكن من التطرق إلى نقاط الضعف في مساره، إلا أن الوقت كفيل بذلك خدمةً للموضوعية التي تقتضيها الكتابة في تقييم مسارات الرجل والمشاريع التي جاء بها، كما أن ضعف إمكانياتي اللغوية والبحثية قد يحُدَّان من قدرتي في تبليغ ما يجيش في خواطري عن هذا الرجل ومشروعه الإصلاحي، إلا أن ذلك لا يمنع من التطرق إلى أهم ما تبدّى لي من خلال الآتي:
أولاً: مناقبه الشخصية
إنها شهادتي أمام الله تبارك وتعالى أن هذا الرجل كان على مرتبة كبيرة من الولاية والصلاح، ملتزمًا بالإسلام في نُسُكه الخاص، وفي معاملاته اليومية مع الناس في حدود الشرع والأخلاق لا يتعدّاها ولا يتساهل فيها، فطوال فترة صحبتي له، ورغم ما فيها من ضغوطات نفسية ومادية ووطنية وودولية، وعلى ما فيها من انشغالات وصوارف، لم يتخلّف هذا الرجل عن أداء صلاة الجماعة في وقتها إلا نادرًا، ومهما كانت الأحوال والظروف، وسواء كنا في المقر المركزي للحركة أو في المطار أو في الأسفار، أو في اللقاءات الرسمية المختلفة تجده حريصًا على الركوع والسجود كأنه يناجي ربه سبحانه بمشاورات في القضايا الشاغلة؛ لذلك وجدتُه مداومًا على النوافل وقراءة القرآن لدرجة أنني- وفي كثير من الأحيان- عندما أدخل عليه مكتبه صباحًا وأجده منغمسًا في ورده متأملاً في مصحفه، أخرج في هدوء ولا أسلم عليه؛ حتى لا أقطع عليه خلوته، وكم كان- رحمه الله تعالى- يتأذى عندما يقاطعه بعض الإخوان ليظفروا بالسلام عليه، وكان كثيرًا ما يجمعنا كلما أتيحت لنا الفرصة لنشهد بحضرته ختمة من ختماته للقرآن الكريم؛ حيث كان من عادته أن يجمع أعوانه في المكتب ويختمه بالدعاء، ويطلب من كل واحد مهم أن يدعو بما شاء فيتحوّل مجلسه ومكتبه ذاك إلى محراب خاشع وفرصة روحية نادرة تخشع فيها النفوس، وتبكي العيون وتتعانق الأرواح، ونحن نبكي من حوله ونتضرع إلى الله دعاءً واستغفارًا حتى يشعر الواحد منا- وهو خارج من تلك الجلسات السَّنية- بطاقة روحية وصفاء نفساني، لو استمرت معه لاشتم روائح الجنة، وهو في هذه الحياة الدنيا.
ولم تفته- رحمه الله تعالى- العمرة في شهر رمضان إلا نادرًا، وشهود موسم الحج كل سنة، حيث يتزود بالزاد الروحي الأكبر، وهي فرصته ليتواصل مع أمثاله من العلماء والدعاة والمشايخ الذين كان يقدرهم كثيرًا ويقدرونه أكثر.
وكانت فيه أخلاق النبل العالية، بحيث وجدته يتمثّل ويطبّق قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)? (الحجرات)، فالرجل رغم أنه كثير الإنصات إلاّ أنه لم يكن يتأثر بما ينقله له الإخوان عن بعضهم البعض من أخبار ومعلومات، صحيحة كانت أو مغلوطة، إلاّ بعد التبيُّن والتأكد، بل أحيانًا تكون انتقاداتُ الإخوان لبعض الإطارات لاذعةً وتحاملُهم عليهم شديدًا، فتجد الشيخ يقرِّب البعض من أولئك الإطارات ويكلفهم بأعمال، وملفات لا تخطر ببال أولئك المتحاملين.
ولم تكن هذه الكتلة من الأخلاق مقصورة في تعامله مع أصحابه فقط، بل كانت ديدنه حتى مع خصومه السياسيين، فكان الرجل يتورع عن أن يتجاوز الحدود الشرعية في المعاملة معهم.
وبالجملة كان رحمه الله تعالى متشبعًا بأخلاق الإسلام؛ إذ تجده دائمًا يبادرك بالتحية والسلام، ويقابلك بالبشاشة والابتسام، حتى في أحلك الظروف، وكان متسامحًا جدًّا مع الآخر.. كل الآخر، ولم يتصرف يومًا مع معارضيه في الحركة من ذوي الرأي أو من الفوضويين والمشاغبين بالتصريحات الشاذة على صفحات الجرائد، أو من مرتكبي الحماقات السياسية، فلم يتصرف معهم جميعًا إلا بالحسنى والخفض من جناحه نحوهم، بل تجده أحيانًا كأنه يرفع من مقامهم في المجامع، واللقاءات العامة رغبة في ترويضهم وتربيتهم وتكوينهم، والتخفيف من تنافساتهم، وحين ما كان يغتاظ المقربون من هذه السياسات يوحي لهم ولا يصرح بأن مصلحة الحركة تقتضي المحافظة على مثل هذه التوازنات الدقيقة، ويُفهم المقربين منه أنهم أصحاب رسالة فلا بد أن يحترقوا ليُضيئوا للآخرين، ولا أذيع سرًّا إذا أشرت أنه في الوقت الذي كان بعض معارضيه يتمتعون بخيرات المواقع التي أوصلهم إليها؛ كان هو رحمه الله تعالى وبعض مقرَّبيه لا يجدون قوت يومهم، وكان بعضهم عندما يعود في ساعة متأخرة إلى أبنائه لا يجد عندهم كسرة خبز، وعزاؤهم في كل ذلك أنهم قد اختاروا صحبة الشيخ والقرب منه، ولأن الغذاء الروحي والشعور بالمسئولية اللذين كان الشيخ يهبهما لمقربيه تجعلهم بشرًا من نوع آخر ويجدون في ذلك خير العوض.
كان رحمه الله تعالى رقيق القلب، حاضر الدمعة وفي أكثر من مناسبة رأيت دمعته تذرف عندما يسمع بحال مسكين أو موت أحد الصالحين أو مسٍّ بمقدسات، وخصوصًا عندما يرى سقوط الشهداء على أرض فلسطين وعبث الصهاينة وحلفائهم بالإنسان ومصالحه، إن القوة والهيبة والهيلمان الذي يطبع هذا الرجل من بعيد يختفي تمامًا في هذه الحالات، ويظهر لك كأنه طفل صغير يذرف دموعًا متتابعةً بشهيق يحوِّل الموقف إلى مأتم؛ ذلك لأن الرجل كان يتأثر بكل ما يسيء إلى إخوانه المسلمين في دينهم ودنياهم، ولا تملك أنت أمام تلك الدموع إلا مشاركته في ذرف دموعك لعل قلبك يرقّ كما رق قلبه.
إنني لم أُرِدْ من خلال هذه التفاصيل إلا نقل بعض الصور التي عشتها، وعايشتها مع هذا الرجل لعلها تكون عبرةً لمتصدري العمل السياسي الإسلامي في جميع المواقع والأقطار، ولتسمح لي أخي القارئ الكريم بهذا الاستطراد والتكرار؛ لأني فقدت منذ قليل وأنا أكتب هذه الأسطر السيطرة على الكتابة، وحروفها، لأني في هذه اللحظات تذكرت ساعة رحيله، وحالت دموعي بيني وبين التسلسل المطلوب، فخلاصة القول أن هذا الرجل كان- والله حسيبه، ولا نزكيه على الله- من عباد الله الصالحين ومن أوليائه المقربين، قبل أن يكون زعيم حركة أو حزب سياسي.
وكانت آخر كلمة سمعتها من فمه الطاهر قبل أن يتعطل عن الكلام، وهو بالمستشفى بفرنسا حينما سألته عن صحته؛ هي " تهلاوا فالدعوة"، أي أوصيكم خيرًا بالدعوة إلى الله، وهي الوصية التي أودّ أن أنقلها إلى جميع من آمنوا بأفكاره ومشروعه ممن عرفه عن قرب أو ممن سمع عنه ولم يره.
ثانيًا: أخلاقه السياسية
وكان- رحمه الله تعالى- ينظر إلى إخوانه نظرة حُسْن ظن، ويؤاخي باستمرار بين العاملين معه ويبتعد عن كل ما من شأنه توليد المشاحنات والتشنجات والخصومات بين الأفراد، وكان يكره الجيوب ويشمئز من أصحابها.
أما نظرته إلى غير الملتزمين من عموم الناس، فكانت نظرة رحمة وشفقة، يطبعها طمع في دعوتهم وهدايتهم، وطمع في تجنيدهم في مشروعه الإصلاحي والاستفادة من خدماتهم، ولم يكن ينظر إليهم أبدًا نظرة العداء أو الحقد أو الجفاء التي تطبّع عليها بعض متصدري العمل الإسلامي، لذلك تجد له محبة خاصة في القلوب وتقديرًا من نوع خاص، من طرف هؤلاء وأولئك، فعندما نكون في الأسفار تجد خليطًا من الرجال والنساء يتزاحمون على القرب منه، ويتبركون بمصافحته ويسلمونه أبناءهم وصبيانهم تبركًا، ويبادلونه تحيات الإعجاب، وأفواههم تردد "شيخنا، شيخنا..."، وكان دائمًا عندما يخلو لنا الجو معه بعد ذلك، يقول لنا: "لا تعافوا الناس"، أي لا تضجروا منهم ومن خلطتهم.
إن هذا السلوك يرتكز على فلسفة خاصة، وراسخة في العمل الدعوي، تجعل الداعية ينظر إلى غيره ممن لا يلتزم بشعائر الدين بأنهم الحقل الذي يجب أن يعمل فيه، فلا بد أن ينظر إليهم برحمة الداعية وليس بحقد الغانم، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان يردد دائمًا "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، وكان يقول "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين".
وفي معاملاته مع خصومه أيضًا، يُخيل إليك أنهم أصدقاِؤه المقربون؛ فتجد الابتسامة والعناق، وهي سمات تصدر عن طبع فيه، ويكاد لا يغفل عنها- رحمه الله- عندما يصادفهم في اللقاءات والمجامع العامة، وهو يرسل من وراء ذلك رسائل إلى الصحافة ولكل الناس، وكان يقول لنا دائما: "إننا نبشُّ في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم"، وقد شهد على مثل هذه الأخلاق الصحفي الجزائري البارز والعنيد حميدة العياشي عندما قال في مرثيته: "أيها الشيخ الذي عرف كيف يصبح صديقًا حتى مع خصومه".
أما معاملاته مع رجالات الدولة والمسئولين الساميين فكان يطبعها توازن بين الاحترام الواجب إسداؤه لهم وبين التعبير عن آرائه ومواقفه، والمحافظة على استقلاليته تجاههم، فلا تجده يتجه نحوهم بكلام جارح أو خارج عن حدود اللياقة، في الوقت الذي يتوجّه فيه إلى أفكارهم بالتمحيص والنقد، بأسلوب مملوء بالمزاح والمرح؛ بحيث يفهم الطرف الآخر مقصود الشيخ دون أن يجد ما يجرِّمه عليه، ومن القصص الطريفة في هذا المجال أنه- وعلى هامش جنازة المرحوم شريف مساعدية- التقي واحدًا من كبار المؤسسة العسكرية، الذي كان مجرد ذكره يخيف الكثيرين من رجالات الطبقة السياسية، فتبادلا الابتسامة والتحية، وتفنن الشيخ في عبارات التحية وضمنها جملة طريفة قال فيها لصاحبه "واش يا حضرات كاش صناديق طائرة"، وكان يقصد الغمز إلى حالات التزوير والتلاعب بصناديق الانتخابات
وإذا ما وافق مسئول أو تحالف معه لا ينخرط فيه بالشكل الذي يجعله تابعًا لا إرادة له، ولا يغدر ولا يتنصل من شيء التزم به، بل كان دائمًا يحافظ على توازنه وينبِّه إلى الأخطاء والهفوات، وذلك حبًّا في من وافقه أو تحالف معه؛ لأن كثرة الوفاق نفاق كما يقال، وهذا ما كان يدفع بحلفائه إلى المزيد من تقديره واحترمه، وهو ما جعل من تصريحاته ومواقفه مؤشرات ومحددات تمكن رجال الصحافة والمتتبعون للشأن الجزائري والمحللون من بناء استنتاجاتهم وقراءاتهم، فقد أصبح الرجل من خلال ذلك مرجعًا إذا تكلم أو صرَّح، لا بد أن يُدرس كلامه وتصريحه في أكثر من جهة داخل الوطن وخارجه، على عكس الكثير ممن قد يتكلم، أو يكتب ويقول بمناسبة وبغير مناسبة.
وقد تميز الرجل بخلق راقٍ جدًّا وهو خلق الاستماع إلى الآخر، حتى يُخيل إلى كل من يتحدث معه أنه من أهم الناس إليه، وكان يستمع لمخاطبيه مهما كان الموضوع ومهما كان أسلوب المتكلم، ومن الغريب أنه كان يستمع إلى معلومات أو أخبار لمرات عديدة، وكلما كلّمه أحد فيها يشعره أنه هو أول من حدثه في ذلك، فلا يقاطعه ولا يعلِّق عليه إلا بما يقتضيه الحال.. إن هذا الخلق كان يحفز الجميع على نقل ما يملك من معطيات أو معلومات إلى الشيخ الذي يقدره ويستمع إليه باحترام، فخلق الاستماع يحتاج إلى طاقة روحية ونفسية قوية وإلى سعة صدر وطول بال، تعتبر من نعم الله النادرة على الإنسان في هذه الحياة.
كما تميز الرجل بخلق الحفاظ على الأسرار، فلا تجده يحدث بما يسمع إلا نادرًا، وإذا ذكر معلومة يندر أن يذكر مصدرها أو صاحبها، وعندما تكلِّمه في أي أمر تشعر بالحماية الكاملة لأن سرك مصان ومحفوظ؛ مما جعله محل ثقة الكثير من الرجالات في مواقع غاية في الحساسية، ولعل الرجل مات وارتحل وأُقبرت معه الكثير من الأسرار التي لا يعرفها أقرب المقربين إليه، وإذا ما أسرَّ لأحد مقرَّبيه بسرٍّ من الأسرار فلا يكون ذلك إلا بناءً على عمل يتوقف عليه، وبعد أن يتأكد تمامًا من توثيق صاحبه.
فهذا الخلق وحده يمكن أن نسميه خلق الأخلاق في العمل السياسي، فمقتضيات الدولة تقتضي الحفاظ على أسرارها مهما كان الأمر، على عكس حماقات بعض السياسيين الذين يحلو لهم نشر الأسرار ومحتوى اللقاءات الخاصة على صفحات الجرائد، فضلاً عن التبجح بها في الصالونات واللقاءات العامة.
وكم كان يقدر العلماء والمشايخ وأصحاب الفكر والثقافة، لقد كان لتواضعه معهم وتقديره لهم الأثر البالغ في احترامهم له، وهو ما مكَّنه من تجاوز كل الصعاب التي صاحبت مواقفه وسياسته خصوصًا بعد توقيف المسار الانتخابي، فقد كان يؤمن بحاجة السلطة إلى المثقف الواعي والعالم الذي يكبح جماح الاستبداد ويشارك في بلورة القرارات ويمارس مهمة الرقابة أثناء التنفيذ.
وقد تميز- رحمه الله- أيضًا بسعة صدره لمنتقديه في مختلف الأوساط وعلى رأسهم رجال الصحافة والإعلام؛ حيث لم يكن ينزعج إطلاقًا مما يكتب عنه وعن سياسته، ويكفي هنا الاستشهاد بشهادة الصحفي العنيد حميدة العياشي الذي كتب في مرثيته بجريدة الشروق "كنت أسميك في عمودي الشيخ الباندي، فلم تغضب مرة، بل كنت تقهقه وتعلق وتثمِّن حرية النقد والرأي، لم يضق مرة صدرك بسهامي الموجهة لسياستك وكان ذلك يكبر من مكانتك في قلبي...".
وتميز أيضًا بخلق التجميع وإصلاح ذات البين على جميع المستويات، فعلى مستوى الحركة كان الرجل أبًا للجميع ورمزًا للوحدة يحرص دائمًا على استيعاب الكل وامتصاص غضب الغاضبين ومسايرة سلوكيات المشاركين والترفع عن الهفوات والأخطاء مما كان يكسبه باستمرار موقعًا مرجعيًّا يلجأ إليه الجميع في الملمات والمنعطفات، فيخرج منها الجميع نحو آفاق رحبة ومكاسب جديدة ومواقع متقدمة وانسجام متنامٍ.
وفي خارج محيط حركته كان الرجل سبّأقًا للإصلاح بين جميع المتخاصمين، داعيًا إلى وحدة الصف وحل الخلافات بالتي هي أحسن سواءً تعلق الأمر بجماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب أو بمكونات الدولة التي كانت تتجاذب خلال سنوات الأزمة حيث ظل يدعو إلى ضرورة وحدة القرار الوطني.
وطُبِعَ الرجل أيضًا على التّعفف والزهد عما في أيدي الناس مما أكسبه ثقة الأغنياء فكانوا يتسابقون في عرض خدماتهم عليه، وكانت الحركة ومشاريعها هي المجال الوحيد الذي يوجّه إليه ما توفّر لديه من أموال وعطايا، ولم يعط نفسه الحق في التمتع بذلك، فقد عاش الرجل وأسّس حركته في بيته المتواضع بمدينة البليدة، ومات ولم يترك إلا ذلك، إن الزهد والتعفف والترفُّع الذي ميز أخلاق الشيخ لهو رأس المال الكبير الذي لا تقدر قيمته بثمن، فثقة المحسنين والمتبرعين مفتاحها تلك الأخلاق النادرة اليوم.
إن تلك الميزات، وما جلبته له من ثراء معنوي جعلته يظهر لمن لا يعرفه، أنه من كبار الأثرياء حتى قيل الكثير عن ممتلكاته وشركاته، إلا أنه في نظر المقربين إليه رجل في منتهى البساطة المادية وفي منتهى الثراء المعنوي، فمجرد كلمة أو رسالة منه تعتبر تزكيةً وتسمح لحاملها بالولوج في عوالم لا يدرك أهميتها إلا من عاشها أو شهد عليها.
وكم كان الرجل معجبًا بالمبادرة والمبادأة ومشجعًا لها ومستمعًا لمقترحات أصحابها وموجِّهًا لهم، ومهما كان حجم تلك المبادرات أو مجالاتها، فإنه كان ينظر إليها كأنها مخلوقات حية من حقها عليه أن يرعاها ويوجِّهها ويحفظ حقوقها في الإضافة والمشاركة في مشروعه الإصلاحي، فالرجل كان يشعُّ بالأفكار والمقترحات في جميع المناسبات والمواقف مما يرهق معاونيه، ومن اختاروا القرب منه وتحمسوا لمتابعة وتنفيذ ما يطرحه من أفكار ومبادرات، ولعل العيب القاتل في بعض من كان في محيطه أنه لم يكن قادرًا على الشعور بأهمية ما يطرحه هذا الرجل، ولم يكن قادرًا أيضًا على متابعة ورعاية ما قام منها على أرض الواقع، والأكثر من ذلك أن الكثير منهم كان يمارس دورًا سلبيًّا، وذلك بحجج مختلفة لا ترقى إلى مقام صحبة أمثال هذا القائد، لذلك كان- رحمه الله تعالى- يضجر من هذا النوع، ويسمي بعض محيطه البشري "بالقتلة"، يقصد الذين يقتلون المبادرات.
ورغم ذلك فقد كان للشيخ قوة خارقة في احتضان مبادرات الآخرين بنفسه، ودعمها وتشجيعها، لدرجة أن مجرد موافقته وتزكيته للاقتراحات والأفكار من طرف الكفاءات المبدعة كانت تشكل بالنسبة لهم مفتاحًا من مفاتيح النجاح؛ لأن موافقة الشيخ وتزكيته كانت تحمل طاقةً روحيةً ودعمًا معنويًّا توفر لصاحب المبادرة عاملاً أساسيًّا من عوامل النجاح، فضلاً عما يزوِّدعا من علاقات وآليات أخرى، كان الشيخ يجود بها على المبدعين من أصحاب المبادرات الذين كثيرًا ما يسمعون الشيخ يرسل إمضاءه بالكلمات الدالة على الموافقة كقوله "انطلق على بركة الله.."، أو إلى "الأمام" أو "بالتوفيق..".
ثالثًا: فلسفته في الإصلاح السياسي
إن فلسفة الإصلاح السياسي عند الشيخ رحمه الله تعالى هي فلسفة إسلامية أصيلة تستند إلى معاني القرآن الكريم والسيرة العاطرة، وذلك بحكم التربية والتكوين الذي نشأ عليه الشيخ، وبحكم تأثره بالمشروع الإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين، والمشروع السياسي للحركة الوطنية من جهة ثانية، دون أن نغفل التأثير القوي لدعوات الإصلاح التي حملها كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والشهيد حسن البنا، هذا الأخير الذي تأثر الشيخ بفكرته التغييرية بشكل كبير جدًّا.
وهذا كله جعل مشروعه يرتكز على مفهوم التغيير الطويل والشامل الذي يبدأ من إصلاح الفرد، ثم البيت أو الأسرة، ثم المجتمع، ثم الحكومة أو السلطة، حتى يصل إلى الأستاذية والعالمية مصداقًا لقوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ? (الرعد: من الآية 11)، أما نتائجه فلم يكن الشيخ متعجِّلاً رؤيتها؛ لأنها مرتبطة بعوامل النصر التي حددها القرآن الكريم بوضوح ووعد الملتزمين بمحتواها بشكل صريح من خلال قوله تعالى ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا? (النور: من الآية 55).
رابعًا: مساره في الإصلاح السياسي
إن فلسفة الإصلاح التي اعتمدها الشيخ رحمه الله تبلورت لديه من خلال مسار طويل مليء بالتجارب والاحتكاكات المختلفة إلى أن ظهرت معالمه للناس بوضوح في المؤتمر الثاني للحركة الذي حسم في موضوع المشاركة التي دار حولها جدل كبير، ويمكن تقسيم مسار الشيخ في الإصلاح إلى أربع مراحل أساسية تتمثل فيما يلي:
1- مرحلة ما قبل الاستقلال.
2- مرحلة ما بعد الاستقلال.
3- مرحلة ما بعد الخروج من السجن.
4- مرحلة ما بعد الانفتاح السياسي.
فمن الضروري دراسة هذه المراحل بنوع من التفصيل من خلال تجميع المعطيات التي بحوزة من رافقوا الشيخ في هذه المراحل من أجل الوقوف عند الأبعاد التاريخية والقناعات الفكرية التي بلورت مشروع الإصلاح.
فمن المعلوم أن مرحلة ما قبل الاستقلال ميزتها مشاركة المرحوم ومن معه من المؤسسين في ثورة التحرير، ومن المفيد هنا دراسة الجدل الذي دار بين قيادات الثورة في المنطقة وبين منفذي الحسابات السياسية في الانتخابات الرئاسية، خصوصًا أن الجدل انتهى بتسليم شهادة المشاركة في الثورة إلى المرحوم في آخر أيامه بعد أن كانت هذه الوثيقة هي سبب إقصائه من حق المشاركة في الترشح لرئاسيات 1999.
أما في مرحلة ما بعد الاستقلال فقد عايش المرحوم التهميش والإقصاء الذي تعرَّض له الدعاة والعلماء عشية الاستقلال؛ حيث اختار التخندق معهم في مشروع الصحوة الذي يرتكز على الإصلاح الديني كمقدمة ضرورية لأيّ إصلاح، إلا أن الشيخ تميز عن غيره من الدعاة آنذاك بمبادرته بتأسيس تنظيم سري باعتبار أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو أيضًا واجب، كما تميزت هذه المرحلة بالصدام المعروف مع نظام الرئيس هواري بومدين، وبغض النظر عن شكل الصراع، ووسائله إلا أن المعارضة كانت تتسم بالجرأة النادرة، والشجاعة الباسلة وكانت تحمل بُعدًا قيميًّا كما أنها تحمل بُعدًا سياسيًّا واقتصاديًّا من خلال رفض أسلوب التسيير، ونظام الحزب الواحد، ورفض الميثاق وما دعا إليه فيما سمي آنذاك بمشروع الثورات الزراعية، ورغم مرارة التجربة إلا أن أيام السجن كانت كافية للمراجعات الضرورية من أجل صياغة جديدة للمشروع، تراعي نتائج التجارب السابقة، وتأخذ في الحسبان متطلبات المستقبل.
ولذلك كانت مرحلة ما بعد الخروج من السجن مليئة بالنشاط تنظيميًّا بإعادة هيكلة الجماعة، وإرساء معالمها التنظيمية ووطنيًّا بتجذير العلاقة مع فعاليات الجماعة الوطنية، وتجاوز الطبقات العازلة التي كانت تحول بينه وبين صناع القرار، ودوليًّا بتأسيس العمل في الجالية، وفتح جملة من العلاقات الدولية على مختلف الأصعدة، وأصبحت عملية التحضير للانفتاح السياسي المرتقب تتسم بالجدية والاحترافية، وكمؤشر على ذالك أذكر أنه في مخيم طلبة الوسط لصيف 1987 قمنا من خلال مجموعة ورشات بإعداد دراسة حول توقعاتنا للخارطة السياسية في المستقبل وكان ذلك تحت إشراف الأستاذ عبد المجيد مناصرة حفظه الله.
وبالفعل جاء الانفتاح السياسي بعد أحداث أكتوبر 1988؛ حيث اقتحمها المرحوم من خلال مشاريع كثيرة متكاملة، منها مشروع "جمعية الإرشاد والإصلاح"، ومشروع "النقابة الطلابية" ومشروع "النقابة العمالية"، الذي لم يكتب له النجاح، ثم جاء بعد ذلك مشروع "حركة حماس" التي عبر من خلالها بوضوح عن مشروعه المتكامل في الإصلاح.
خامسًا: منهجه في الإصلاح السياسي
يعتمد منهجه الدعوي والسياسي على خيارين أساسيين؛ هما خيار المشاركة في الممارسة السياسية داخل الوطن، وخيار توطين الدعوة في المهجر خارج الدول الإسلامية، ولأهمية موضوع المنهج نحرص على شرح مبسط لهذين الخيارين ومكاسبهما بما يسمح لهمهما على الوجه الصحيح.
1- خيار المشاركة
فالمتتبع لكثير من تجارب العمل الإسلامي السياسي في العالم الإسلامي يجده كثيرًا ما يتميز بالمواجهة مع أنظمته الحاكمة، والدخول في مواجهات مع النخب العلمانية والقومية، وهو ما أنهك التيار الإسلامي بعامة وضيع عليه الكثير من الجهود والفرص، وأنهك إمكانيات الدولة من جهة أخرى، وساهم في ارتماء أنظمتها في أحضان القوى الدولية بشكل زاد من تبعيتها، وعلى ضوء هذه التجارب أنضج الشيخ رحمه الله خياره هذا، وخصوصًا أثناء مرحلة السجن وبعد مظاهرات 1976 التي عارض فيها التوجُّه الاشتراكي، وخيار الحزب الواحد، بزعامة الراحل هواري بومدين آنذاك، ومن خلال إعادة دراسته للتراث الإسلامي في مرحلة السجن، وبعد الزيارات الكثيرة التي قادته بعد ذلك إلى الكثير من دول العالم، وجو التحديات التي فرضتها ممارسات الصراع بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأطراف النظام الحاكم، اختار المرحوم منهج المشاركة، ورفع شعاره المشهور "الواقعية المرحلية الموضوعة"، ودعا إلى إنشاء حركة "هادئة هادفة، هادية"، وأكّد أن الجزائر حررها الجميع المخلصون ويبنيها الجميع المخلصون، ودعا إلى بناء الجدار الوطني والجماعة الوطنية، وأصرَّ على دعوته إلى الحوار بين جميع الأطراف، وفي هذه الأجواء وُلد خيار المشاركة ولعله وُلد غريبًا عن وعي الكثير من أتباع وقيادات الحركة الإسلامية، ومن حسن التوفيق أن القناعة بهذا الخيار اكتملت لدى أتباعه في الوقت الذي كان يدعو فيه غلاة العلمانية والاستئصال إلى الوقوف في وجه مشروعه، ومَنْع حركته بما كانوا يطلقونه عليه بانبثاث وتغلغل التيار الأصولي في مؤسسات الدولة.
وتجدر الإشارة إلى ملاحظة دقيقة لها أهمية تاريخية كبرى، وهي أن هذا المنهج السياسي هو من إبداع الشيخ محفوظ نحناح شخصيًّا ولم يكن يشاركه فيه على مستوى القيادة إلا القليل من الإطارات، ولولا زعامته ومصداقيته ودهاؤه السياسي لما استطاع أن يقنع به جميع أتباعه وأعوانه ويروِّضهم على مقتضياته؛ إذ يلاحظ كل متتبع لمسارهم، ويكفي- للدلالة على ذلك- أن أهمّ المواقف الحاسمة، كانت الغالبية من قيادة الحركة ترى رأيًا آخر غير الذي كان الشيخ يراه، ومن أمثلة ذلك، في الوقت الذي قرر الشيخ فيه الخروج من السرية، وإدماج التنظيم السري، وإطاراته في التنظيم السياسي الجديد لحركة حمس، وكذلك حين تردد الإخوة في دخول الانتخابات الرئاسية لسنة 1995 وطائفة عريضة تعارض الدخول، إلا أن الشيخ أقنع الجميع بضرورة الدخول، لكن ليس لكسب المعركة، وإنما لتسجيل سابقة سيكون لها أثرها الإيجابي على الحركة لاحقًا، وصدق ظنُّه، وهكذا ظل الشيخ يروض إخوانه وأتباعه على المنهج الجديد، حتى ألفوه واقتنعوا بصوابه وباتوا يبشرون بسداده في كل الأقطار، حتى نسجت على منواله بعض القيادات الإسلامية في الداخل والخارج.
ومن الملاحظات المأخوذة أن هذا المنهج في المشاركة لم يحظَ بالتنظير اللازم له، بل ظل مرتبطًا بمسار المرحوم، وعليه يبقى مستقبل هذا المنهج في غيابه مرتبطًا بمدى فهم، واستيعاب أبناء الحركة لمقتضياته، وما يهمنا هنا أن الإنجازات التي أرساها المرحوم في منهج المشاركة أصبحت ملكًا مشاعًا يحق للجميع العمل به والسير على خطاه، سواء من خلال الأحزاب الحالية أو التي ستوجد في المستقبل؛ لأن العبرة بالمحتويات، وليس بالإشكال، ولذلك ظل الشيخ ينشر مشروعه في دوائر متعددة، ولدى أشخاص متنوعين، وفي مختلف المواقع، ولم تكن حركة حمس رغم كل ما أعطاها من جهده إلا واحدة من الأطر التي كان يعلق عليها الآمال إلى جانب أطر وآليات أخرى؛ منها ما أوجدها أو ساهم في إيجادها، وهو على قيد الحياة ومنها ما أومأ إلى إيجادها مما يجعلها أمانةً ودَينًا في أعناق كل من آمنوا وتشبعوا بأفكاره؛ لكي يعملوا على إيجادها في المستقبل، فهو الذي كان يردد كثيرًا "تأسيس ما لم يؤسَّس".
إلا أنه لا بد أن نؤكد أن المشاركة يمكنها أن تكون إيجابيةً ومفيدةً للفكرة الإسلامية إذا ما تمسك القائمون عليها بأخلاقهم ومعاملاتهم الإسلامية ولم يتحولوا بفعل تأثير المواقع إلى صور مشوهة وممسوخة، وإذا لم ينس الأفراد أنهم- أولاً وقبل كل شيء- دعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما المواقع والفضاءات التي تتيحها المشاركة إلا منابر جديدة ومساجد ومصليات من نوع آخر، عندها فقط تكون المشاركة فتوى مقبولة، أما إذا تحولت إلى مسخ في السلوكيات والممارسات للأفراد والجماعة فإنه لا بد من الاستماع إلى تحفُّظات بعض الدعاة من المشاركة ودراستها بعناية، أي لا بد هنا من الاستماع إلى الرأي الآخر الذي يربط المشاركة بشروط قد لا تتوفر في كل مبتغٍ لها، فتبطل فتوى المشاركة لانعدام الشروط ووجود العلل.
2- خيار توطين الدعوة
ويتعلق هذا الخيار بالعمل الإسلامي في أرض المهجر؛ حيث كان المهاجرون من قبلُ مكبلين بفكرة دار الإسلام، ودار الحرب، ولم يهتدوا إلى فتوى أو نظرية تحررهم من الانزواء، والانعزال الذي ولدته فيهم تلك القناعات القديمة غير المدروسة، وغير الواعية، فكان الفضل في الاهتداء إلى صوابية هذا الخيار يرجع إلى الشيخ محفوظ نحناح، إلى جانب إخوانه من العلماء والدعاة كأمثال الشيخ الغزالي، والشيخ القرضاوي، والشيخ المولوي، والأستاذ الراشد، والداعية مصطفى مشهور، وغيرهم، الذين ذهبوا إلى أن مصلحة الدعوة تفرض على المهاجر المسلم العيش في البلد المضيف كمواطن عليه أن يتمتع بكامل الحقوق التي تضمنها قوانين البلد المضيف، ويلتزم من جهته بكامل الواجبات، ويساهم في تنمية ذلك البلد وفي خدمته من باب خدمة الإنسانية، وما يفرقه في ذلك عن غيره هو فقط عقيدته الإسلامية التي تضمن معظم القوانين حريتها، وهذا الخيار سمح للمهاجرين من الانفتاح أكثر على الفضائيات والأطر والأوساط المتنوعة في المهجر ومكنهم من تكوين طموح في تشكيل لوبي عربي إسلامي يحد من تأثير اللوبي الصهيوني في الغرب، ويحفظ للمسلمين مصالحهم المادية والمعنوية، ولا شك أن الدعاة في المهجر والإخوة الذين يمارسون العمل الإسلامي يدركون أكثر من غيرهم أهمية هذا الخيار، ونتائجه الإيجابية عليهم كأفراد، وعلى البلد المضيف، والبلد الأصلي، وعلى الدعوة ومشروعها بوجه عام.
سادسًا: الرؤية ومحتوى مشروعه الإصلاحي
لقد عبر الشيخ محفوظ نحناح في مناسبات مختلفة عن ملامح مشروعه، وكان أبرز تلك المناسبات خطابه الافتتاحي للمؤتمر الثاني الذي اعتُمد فيما بعد كوثيقة مرجعية للحركة، ومن خلال مفردات هذا الخطاب يمكن الإشارة إلى النقاط التالية بوصفها المحاور الأساسية لمشروع المرحوم.
* الدفاع عن الثوابت الوطنية والقضية الفلسطينية.
* المشاركة القوية في بناء جزائر ما بعد الإرهاب، وما بعد الأزمة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
* العمل على تجميع القوى الحية في وطننا، وفي الوطن العربي والإسلامي، على المستويين الرسمي والشعبي للتفكير الجادّ في نظام عربي جديد يمكننا من تشكيل قطب دولي محترم يضمن المصالح المادية والمعنوية لشعوبنا إلى جانب الأقطاب الأخرى المشكَّلة، أو هي التي في طور التشكل.
* بناء المؤسسات وتجذير الديمقراطية ثقافةً وممارسةً وسلوكًا في المجتمع وفي مؤسسات الدولة، والأحزاب، والمجتمع المدني، ولإنجاح التحول الديمقراطي، وذلك من خلال:
- استحداث آليات جديدة تعتمد الحوار الهادئ والاستفادة من تجارب الغير والرغبة الجماعية في الوصول إلى الحقيقة.
- إدراك التحديات المعلومة والخفية.
- تعميق الاعتقاد بالدور الفعال الذي يمكن أن تقوم به الجزائر في قيادة التجربة الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، وفي دول العالم الثالث وأفريقيا.
- تجميع كامل القوى الجزائرية على حد أدنى من النقاط المشتركة على مستوى المبادئ وعلى مستوى المصالح في إطار الائتلاف الوطني الإسلامي أو التحالف الرئاسي أو الجدار الوطني أو الجماعة الوطنية أو الجبهة الجزائرية أو منتدى الجزائر أو أي شكل آخر.
- دفع السلطة إلى الاستمرار في فتح العمل السياسي والإعلامي ورفع القيود النفسية والقانونية عن شعبنا وأحزابنا ومجتمعنا المدني.
وكل ذلك يتمُّ في إطار دولة جزائرية ليست لائكية تلغي خصائص حضارتنا ولا دولة ثيوقراطية مبنية على القداسة.
* تمدين النظام السياسي من خلال سلطة منبثقة حقيقية عن الأحزاب السياسية ومحافظة على الدستور وقادرة على إدارة شئون الدولة والحفاظ على إستراتيجيتها التي لا تربك أجهزة الدولة ولا تخيب آمال المواطنين، وقد أوضح في هذا الإطار الموقف تجاه المؤسسة العسكرية، مؤكدًا رغبتها العميقة، وطموحها في أن تتشكل مدارس سياسية مدنية متعددة البرامج، والآليات، ومتفقة على حماية الدولة الجزائرية الفتية، وضمان استمراريتها في إطار النظام الجمهوري، والخيار الديمقراطي التعدُّدي، وثوابتها الوطنية، وتقوية ثقلها الخارجي؛ إذ إن التحول الطبيعي سيحدث بعد أكثر من عشرية من عمل الأحزاب الحقيقية وليست المفبركة.
* بناء الدولة الجزائرية الحديثة يقوم على النظام الجمهوري التعددي، والجيش العصري المحترف، والمجتمع المدني المنظم والفعال، والاقتصاد الحر والتنافسي، والإعلام الحر والمتعدد والشفاف، والإدارة العصرية المحايدة، والقضاء المستقل والعادل، والجامعة المنتجة المؤثرة.. كعناصر سياسية لتحقيق الهدف.
* ترقية حقيقية لحقوق الإنسان عبر تشجيع المنظمات الحكومية، وغير الحكومية المتعددة، والمتنوعة وتمكينها من إبراز جميع الجوانب الحقيقية لوضع وصفات جميع التجاوزات المرتكبة.
* التجنيد أكثر حول القضايا الإستراتيجية للدولة، من خلال تحديد مشترك بين الجميع لمفهوم المصلحة العليا الوطنية الواضحة والمتفق عليها.
* التوسيع الحقيقي والدائم لقاعدة الحكم؛ استجابة لمتطلبات المجتمع بكل شرائحه، واستجابة لتطلعات جيل الإطارات الشابَّة، وتفاديًا للتصدعات التي يحدثها القصور عن فهم تطلعات الحاضر والمستقبل.
* منظومة تربوية متطورة تعكس فلسفة البرامج التي اختارها المواطنون بغالبية واضحة في مختلف المواعيد الانتخابية دون إقصاء أو إلغاء لأفكار ومجهودات وتجارب الأقلية، على أن لا يتعصبوا في فرض تصوراتهم على الأغلبية، إذ لا بد من عدم تجاوز سمات ومحددات المجتمع التي يدركها خبراء العلوم الإنسانية والمجاهدون الصادقون، بوصفهم المرجع الأساسي للمجتمع.
* مطابقة المنظومة القانونية لنص الدستور، وروحه، ومعالجة ما فيها من نقائص وثغرات، وتناقضات دستورية وقانونية ولغوية، بما في ذلك قانون الأسرة وفقًا لشعار "لا للإبقاء، ولا للإلغاء، نعم للتعديل والإثراء" وللنجاح في كل ذلك لا بد من تجنيد نوّاب الشعب والمثقفين والعلماء وأهل الخبرة والاختصاص، بشكل فردي وجماعي، من خلال تفعيل مراكز الدراسات والبحوث؛ من أجل إعداد منظومة قانونية متطورة وقابلة للتطبيق بعيدًا عن الإكراه أو التملص.
* اعتبار الأمازيغية إحدى المكونات للشخصية الوطنية، التي يفترض أن تخرج من الدوائر الضيقة إلى دائرة تعليمها في مدارس ولائية نموذجية ضمن الدائرة العربية، كما فعل رجال تاريخنا عبر العصور؛ إذ لا يُعقل أن يجهل أبناء الجزائر هذا المكون الذي أدار التاريخ والسياسة والثقافة والعمل الوحدوي قرونًا عدةً ضمن دائرة (الإسلام دعوة وقيمة ورسالة، والوطنية وحدة وسيادة، والعروبة انتماء وامتداد جغرافي).
* التفكير الجادّ والجريء والمسئول في إنشاء مقاطعات متجانسة الخصائص، ممثلة ببرلمانات محلية تتمتع بالعضوية في المجلس الشعبي الوطني؛ تعزيزًا للوحدة الوطنية، ووحدة القرار الوطني.
* التأكيد أن الانتماء الحقيقي، والعمق الطبيعي والإستراتيجي للجزائر هو الأمة الإسلامية، مع دعوة الغرب للتعامل مع حضارتها من منطلق الاحترام، والحفاظ المستقبلي على المصالح؛ لأن النظر إلى مستقبل التكامل أولى من النظر إلى مآلات التصادم.
* الدخول في اقتصاد حرٍّ وشفاف وتنافسي؛ لأن قيم الخوصصة والملكية وحرية المبادرة كلها عوامل لا بد من أخذها بعين الاعتبار، مع المعالجة النوعية لموضوع الخوصصة، بما يمكننا من بناء اقتصاد تقوم الدولة فيه بدور المنظِّم والحارس على احترام قواعد المنافسة، وأخلاقيات العمل، ومستوى المعيشة لدى الفرد.. فثقة المستثمر الوطني والشريك العربي والأجنبي تخضع اليوم لمعايير واضحة وشفَّافة، ولموازين قوة مدركة سلفًا، ولا تخضع بأي حال من الأحوال لقوة المناورات السياسية، والتي منها تأجيل تراكم السلبيات المهدِّدة بالانفجار، وتوريث مشاكل مستعصية تدفع نحو الانهيار أو الانتحار.
* ضرورة بيع الأراضي الفلاحية كعنصر مشجِّع ومحفِّز للفلاحة مع الأخذ بعين الاعتبار التخوُّفات المعبر عنها في الموضوع؛ لذلك لا بد أن تتم وفقًا لقانون يُخضع العملية لشروط محددة، إذا لم تتوفر سينحرف المسعى عن اتجاهه الإيجابي ويرهن مستقبل الأجيال.
* تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وحماية ودفع بعض منتجاتها الصناعية القابلة للمنافسة؛ لتجد موقعها في السوق الإقليمية والدولية، وتشجيع القطاع الفلاحي تحقيقًا للأمن الغذائي.
* إدخال التغيرات اللازمة على النظام المصرفي والبنكي، وفتح المصارف والبنوك فعليًّا على القطاع الخاص، وعلى المنافسة الحرة.
* ترقية الاستثمار الوطني وتعزيز الشّراكة عربيًّا وإسلاميًّا وآسيويًّا إلى جانب دعم وعقلنة الشراكة الأوروبية والأمريكية.
* تثمين قيمة العمل والابتكار والمبادرة.
* اعتماد سياسة مائية عصرية وفعالة.
* العناية بموانئ الصيد وتكنولوجيا الصيد البحري.
* تحقيق التوازن في المبادلات الخارجية.
* إصلاح الأجهزة المرافقة كالجمارك والنقل والمرافق شبه الاقتصادية وترقية قطاع الخدمات.
* العناية الخاصة بقطاع المحروقات لدوره الإستراتيجي من خلال تطويره ليتمكن من القيام بدور القاطرة في الإقلاع التنموي المنشود مع التنبيه إلى خطورة الاكتفاء بالاعتماد على الاقتصاد الريعي.
* ئياغة عقد اجتماعي واقتصادي وطني، يمكِّن من تعزيز الموقع التفاوضي للجزائر في تعاملاتها مع المؤسسات والتجمعات الدولية المالية والاقتصادية والسياسية.
* تنشيط المؤسسات والهيئات الإقليمية والجهوية، عربيًّا وإسلاميًّا.
* معالجة موانع الإقلاع الاقتصادي، خصوصًا المتمثلة في الذهنيات السابقة، والتردد في دخول عالم الخوصصة والشّراكة، واهتزاز الثقة، والاعتماد على مصادر قابلة للزوال والانهيار في أي وقت، والتأخُّر في الانضمام إلى المنظمات العربية الاقتصادية والتجارية البينية بين الأشقاء العرب.
* ترقية القطاع الثالث الواقع بين القطاع العام والخاص، المتمثل في قطاع النفع العام؛ للتكفل بالفئات الاجتماعية المحرومة، ومظاهر الفقر والحرمان، والنزوح الريفي، والتشرد، والعاهات، والأمهات العازبات، والطفولة المسعفة، والشيخوخة غير المكفولة، وانتشار البطالة، وتدهور المستوى المعيشي، وكثرة عدد المعاقين.. وهو القطاع المسمى في ثقافتنا وتراثنا بالعمل الخيري المعتمد على الوقف والإحسان والتبرعات والصدقات وتنظيم الزكاة، فلا بد من إعطاء الأولوية لترقية الهيئات والمنظمات والمؤسسات والجمعيات العامة في قطاع النفع العام بعيدًا عن هيمنة واحتكار السلطة، وبعيدًا عن التوجيه والتأطير العضوي للأحزاب، ويمكن- في إطار ذلك- لمؤسسات الدولة والقطاع العام والخاص المشاركة؛ استجابةً لروح التضامن، ووازع الخير، وروح التعاون التي يتمتع بها المواطن الجزائري بعيدًا عن الهياكل، والمؤسسات الرسمية، والحزبية التي أثبتت فشلها، وانحيازها وفساد بعضها.
* حماية الطبقة الوسطى من الانهيار، والزوال، بفتح باب الاستثمار الاقتصادي والفكري والثقافي والإعلامي أمامها عبر تمويل بنكي لأفكارها ومشاريعها والإسراع في إصدار قانون عضوي يحمي المصالح المادية المعنوية للإطار الجزائري للتموقع المحترم في سلم القيم، لأن الإطار حاليًا يتعرّض لضغوطات كثيرة، كاغتيال الإرهاب له وإقصائه أو دفعه نحو المعاش قبل الوقت، وانتهاك المسئولين لحقوقه، وعدم توظيف تجاربه وخبراته وعلاقاته؛ ذلك لأن الطبقة الوسطى هي ضامن الاستقرار والتماسك، وهي العامل الاجتماعي الرئيسي الضامن للالتزامات الاقتصادية.
* التخلص من أزمة السكن، من خلال تشجيع القطاع الخاص على الاستثمارات في هذا الميدان، ومن خلال ترقية التعاون، والشّراكة العربية ذات الإمكانيات المالية، والتي تبدي تفهُّمًا أخويًّا لأوضاعنا.. وقبل ذلك لا بد من توزيع عادل وشفاف للسكنات، ومراقبة صارمة للتجاوزات المسجلة في هذا المجال.
* التجنيد القوي لمختلف الفئات الاجتماعية، كفئة الشباب، والمرأة الجزائرية التي هي نصف المجتمع ومربية النصف الآخر، من أجل المشاركة في التحديات المستقبلية.
* العمل على إيجاد علاقة متوازنة وإيجابية بين الحاكم والمثقف والعالم، يحتفظ من خلالها كلُّ بحقوقه، ويتمكن كل من أداء واجباته تجاه المجتمع والدولة، من أجل التعاون والتكامل لمواجهة التحديات والرهانات الداخلية والخارجية الحاضرة والمستقبلية.
* بناء الجماعة الوطنية التي لا بد أن يكون فيها للمثقف والعالم الوقع المرموق؛ لمعالجة مرض فقدان الثقة، وآفة التآكل الداخلي، ومن أجل بناء وتأسيس المرجعيات الواقية من الهزات والانزلاقات، من خلال تنمية دور العلماء في تأطير العقل، وتجنيد الأمة، وتعميق التواصل، وتمتين الثقة بين الحاكم والمحكوم على أسس سليمة.
* دعم الجهود الوحدوية والتجميعية عربيًّا وإسلاميًّا وأفريقيًّا.
* التفكير في التحدي الفكري المتمثل في تقديم تصور حضاري بديل عن الأيديولوجية القائمة على الفردية والنزعة الاستهلاكية والنظرة المادية البحتة التي تقود مسار العولمة معتمدين في ذلك على قيمنا الحضارية.
* مواجهة الدور القذر الذي يقوم به الكيان الصهيوني لزرع بذور الاختلاف وخلق بُؤَر الصراع والتوتر ومنع أي تقارب متوازن بيننا وبين الأوروبيين والأمريكيين.
* دعوة البشرية اليوم إلى العمل في إطار التشاور، والحوار المستمر لتحديد معالم المستقبل، والتغلب على اختلال التوازن بين الشمال والجنوب، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الرجل والمرأة، وبين الإنسان والطبيعة، وكل ذلك في إطار التمايز الحضاري الذي لا يضيرها بقدر ما يضرها تعنُّت النخب الفكرية والسياسية، التي توفِّر لها أجواء التوتر بتصريحاتها ومواقفها وأحكامها المسبقة.
* دعوة شعوب المعمورة، وأعضاء المجتمع الدولي، ونُخَب العالم إلى التفكير في الالتقاء أكثر وتعميق الحوار، مع التركيز على المشترك من المصالح، والمشترك من المبادئ والقيم؛ لوضع التصورات المستقبلية لمعالجة ما تعانيه الكرة الأرضية، من مشاكل التلوث والعنف والإرهاب والإجرام المنظم ومشاكل الفقر والمجاعة والانحلال الأسري والنزاعات العرفية وغيرها.
* تعزيز ما يمكن أن توفِّره المؤسسات الدولية الحالية مع الحرص على تطوير دورها، وذلك بتحقيق مزيد من الديمقراطية فيها، وتوسيع مواقعها الحساسة لممثلي جميع الحضارات.
* دعم حوار الحضارات والأديان والثقافات من أجل مستقبل آمن ومستقر للإنسانية.
* دعوة الجميع لأن يكون هدفنا الدولي في هذا القرن أن تكون الكرة الأرضية مميزة بقيم السلم والتنمية والحوار والحريات والديمقراطية والتضامن والتعاون والتعايش والأمن والاستقرار، وتغيب فيها الحروب والنزاعات.
سابعًا: من تكتيك الشيخ السياسي
إن الرؤية والفلسفة لا تكفي وحدها لنجاح أي مشروع للإصلاح السياسي، ما لم يخضع في تطبيقه إلى براعة في التكتيك الذي تتطلبه تناقضات الواقع الذي تجري على مسرحه عمليات الإصلاح، ولذلك كان لهذا العامل الدور الحاسم في النجاحات التي حققها المرحوم في مشروعه الإصلاحي؛ حيث كان الرجل يعتمد في تكتيكه على جملة عناصر أهمها:
- معرفة التوازنات ومراعاتها على جميع المستويات.
- الالتزام بالأخلاق الشخصية والسياسية.
- مدّ الجسور مع الجميع والحفاظ على شعرة معاوية مع كل الأطراف.
- المحافظة على خط الرجعة وفرص الانسحاب الاضطراري.
- عدم التعجُّل في قطف ثمار المواقف والبرامج والمبادرات.
- الحرص على تقاسم الفوائد مع الغير.
- المرونة في المواقف والتصريحات، إلا فيما يتعلق بالثوابت أو بقضية فلسطين.
- استغلال الفرص المتاحة واستثمارها في الوقت والزمان والكيفية الملائمة.
- تنويع وتعديد الوسائل والأذرع والواجهات.
- توجيه الرسائل بالطرق المباشرة وغير المباشرة.
- كثرة الحسابات وتقليب الأمر على جميع الأوجه.
- وضع جميع الاحتمالات وعدم إهمال حتى الأقل حدوثًا منها.
- الابتعاد دائمًا عن الانحسار في الزوايا الحادة.
- الحرص على التموقع في ذهن الآخر، كل الآخر، وبمختلف الأساليب الممكنة ومن خلال جميع الفرص المتاحة.
- مراعاة المكسب البراجماتي في إطار الحفاظ على المبادئ العامة والثوابت التي لا اختلاف حولها.
- قياس قوة المواقف التي يتخذها بقوة ما يملك من مقومات القوة الشعبية والتنظيمية والبشرية والمادية.
- التدرج والمرحلية في كل الخطوات والبرامج والمواقف.
- أولوية الأمر بالمعروف والاستثمار في ذلك على النهي عن المنكر واستنزاف الطاقات قبل زوال المنكر.
- بناء التحالفات والتكتلات في مختلف الاتجاهات وعلى الحدود الدنيا من النقاط المشتركة التي تجمعه بمن يتكتل أو يتحالف معهم.
- التمييز بين التحالفات والتكتلات المبدئية الدائمة والظرفية المؤقتة.
- مراعاة التحولات والتغيرات الحاصلة على جميع الأصعدة والمستويات.
- الحرص في بناء الموقف على المعطيات الواقعية مهما كانت مرارتها، وليس على العواطف والرغبات.
- ترويض القيادات والفعاليات الإسلامية، برفق ورقة عالية يدركها المتتبع لمسار بعض القيادات التي كانت توصف بالمتطرفة وكيف تحولت في مواقفها وقناعتها.
ونظرًا إلى حساسية موضوع التكتيك السياسي، بوصفه مهنة وممارسة عملية تحمل في ثناياها الكثير من الأسرار والمعطيات، التي يقتضي الواجب التحفظ وعدم الخوض المعمق فيها.. أكتفي بذكر هذه المحددات من دون شرح أو تفصيل أو تمثيل، مع الإقرار بوجود نقاط أخرى كثيرة يمكننا بعدُ حصرُها جميعًا، من وضع الأسس الكاملة لبناء مدرسة سياسية قوية وقادرة على القيادة في وسط جميع التناقضات والتحديات الوطنية والدولية، وهو الحلم الذي ظل يراود المرحوم، أو بالأحرى هذا المشروع الذي لم يكتمل، فمَنَ له القدرة على معرفة هذه الأسس والعمل بها، وفي أي إطار حالي أو مستقبلي، وفي أي اتجاه؟ ذلك ما تجيبنا عنه السنوات القادمة، وما تحمله من مفاجآت، قد تغيب عن الكثير من ممارسي العمل السياسي في واقعنا الحالي.
وأخيرًا أسأل الله تعالى أن يكتب النفع بهذه الخواطر