23/03/2009

بعدما اتفق شيوخ القبائل في «سوات» على تطبيق الشريعة الإسلامية في مقاطعتهم، فإن أول ما فعلوه أنهم شرعوا في إقامة المحاكم لردع المذنبين وتأديب المنفلتين. و«سوات» هذه مقاطعة في شمال غرب باكستان، في المنطقة الحدودية الموازية لأفغانستان، وسكانها من «البشتون» الذىن خرجت طالبان الأفغانية من صفوفهم، وهذه الخطوة ليست شاذة في مجتمعات مسلمي أطراف العالم الإسلامي، الذين يعتبرون تطبيق الحدود هو الخطوة الأولى اللازمة لتطبيق الشريعة. وهو ما حدث في نيجيريا والصومال «حركة المحاكم الإسلامية».
ومن المفارقات أن هذا الذي اعتبروه مدخلا لتطبيق الشريعة، هو من الناحية الزمنية من آخر مانزل من تعاليم الإسلام، من تلك المفارقات أيضا أن تلك الدعوات انطلقت في مجتمعات بائسة عانت من الدمار والفقر والتخلف، لكن الذين أطلقوها أداروا ظهورهم لكل عناصر ذلك الواقع المؤلم، ولم ينشغلوا إلا بالتعامل مع المنحرفين في المجتمع، وهو ما يدعونا إلى تأمل المفارقة الثالثة التي تتمثل في تجاهل أشواق الأسوياء، الذين يشكلون الأغلبية الساحقة، وتوجيه الاهتمام صوب المنحرفين ومن لف لفهم، من ثم فإن مسلكهم جاء معبرا عن فهم منقوص للدين ولسنن الإصلاح، وفهم معدوم للدنيا ولفقه عمارة الأرض.
كون ذلك حاصلا في مجتمعات الأطراف يفسر لنا لماذا تعاني من الفقر الشديد في المعارف الإسلامية، الأمر الذي تختل في ظله الأولويات والموازين، بحيث تغيب المقاصد عن الإدراك العام.
وتحتل بعض الوسائل صدارة الاهتمام. وهو ما يحول الرسالة السماوية في نهاية المطاف إلى قانون للعقوبات، وليس سبيلا إلى هداية الناس واستقامتهم، ودعوة إلى عمارة الأرض، وإشاعة الخير والنماء في المجتمع.
هؤلاء الذين يريدون اختزال الإسلام في الحدود يهينونه من حيث إنهم يبتذلونه ويقزمونه. كما أنهم يلطخون وجه الحضارة الإسلامية، التي أنجزت ما أنجزته، لا لأنها لاحقت العصاة والمنحرفين، ولكن لأنها فجرت طاقات النهوض والإبداع لدى النابهين من أبناء الأمة، فتنافسوا في العطاء ووظفوا إيمانهم لصالح التقدم والبناء.
في زياراتي لباكستان وأفغانستان صادفت نماذج من هؤلاء. وحين كنت أحدثهم عن أن من يريد أن يطبق الشريعة حقا يجب أن يدخل إليها من باب تعزيز الحرية والديمقراطية، ولا ينبغي أن يفتح باب الحديث عن الحدود قبل توفير الكفايات للناس، حتى يتسنى لهم الحلال الذي يغنيهم عن اللجوء إلى الحرام. وقد علت الدهشة وجوههم، حين قلت إن سيدنا عمر بن الخطاب أوقف حد السرقة في عام المجاعة، لأن الناس يجب أن يشبعوا ويعيشوا مستورين حتى لا يمد أحدهم يده ليسرق شيئا من مال غيره. وكانت خلاصة ما خرجت به أن هؤلاء مسلمون مخلصون لكنهم لا يعرفون من أمر دينهم إلا النزر اليسير. وهو ما حاولت لفت الانتباه إليه في كتابي عن جماعة طالبان، الذين وصفتهم بأنهم «جند الله في المعركة الغلط».
هذه العقلية تجلت في سلوك «الخوارج» الذين كانوا أشد فرق المسلمين تدينا وأكثرهم اندفاعا وتهورا. فهم الذين رفعوا شعار «لا حكم إلا لله» وكفروا عليا بن أبي طالب لأنه قبل التحكيم بينه وبين معاوية، حتى لم يترددوا في قتل من لم يؤيدهم في تكفيره. وهؤلاء لم يختلفوا كثيرا عن «اليعقوبيين» في الثورة الفرنسية، الذين باسم الحرية والإخاء والمساواة ارتكبوا الفظائع، فقتلوا المئات، وأسالوا الدماء غزيرة في البلاد.
لقد ندد الشيخ محمد الغزالي في كتاباته كثيرا بالمسلم «الغبي» الذي اعتبره كارثة بكل المعايير. ولا أعرف ما الذي كان يمكن أن يقوله إذا ما قرأ خبر الذي جرى في «سوات»، لكنني واثق من أنه لن يصنفه بعيدا عن ذلك «الغبي» الذي استفزه وأثار غضبه ولم يتوقف عن مطاردته في كتبه خلال السنوات الأخيرة في عمره.

الشرق القطرية