الحديث عن الأزهر الشريف وشيخه أحمد الطيب حديث ذو شجون، يختلط فيه المدح بالقدح، والرضا بالغضب، وتحميل الخطايا بالتماس الأعذار، وعلى كل حال فالأزهر مؤسسة يديرها بشر يخطئون ويصيبون، وقد أمرنا شرعا أن نكون منصفين في أحكامنا” نقول للمحسن أحسنت وللمسيئ أسأت”.

في الأيام الأخيرة عاد الأزهر وشيخه إلى صدارة الأحداث بعد تصريحات للشيخ الطيب عن خطورة الظلم (يوم 10 نوفمبر الماضي) رأى البعض أنها تمس ولو بشكل غير مباشر النظام القائم، رغم أنها كانت حديثا عاما، وبعد انتشار مقطع فيديو قديم (منذ عامين) للطيب يتحدث فيه لفضائية مصرية عن حصار الأزهر إعلاميا وعدم السماح لشيوخه بالظهور على الفضائيات، أو كتابة مقالات في الصحف للدفاع عنه.

ليس مؤسسة حزبية:

ليس من الحكمة التعامل مع الأزهر باعتباره مؤسسة حزبية معارضة، أو حتى مؤسسة وطنية منفصلة عن باقي مؤسسات الدولة حتى وإن نص الدستور على استقلاله، وتحصين شيخه من العزل الإداري، فرغم هذا النص الدستوري الواضح إلا أن الأزهر لا يتمتع عمليا باستقلال حقيقي، ويحرص رأس السلطة على التحرش به بين الحين والآخر، ولعلنا لم ننس كلمة السيسي الشهيرة “تعبتني يا فضيلة الإمام”، وتصديه في كل مرة يتحدث شيخ الأزهر للرد على بعض ما قاله.

وليس من الممكن نسيان ظهور شيخ الأزهر في مشهد إنقلاب الثالث من يوليو 2013، فلولا وجوده لما كان لهذا الإنقلاب أن يكتمل، أو أن يلقى قبول بعض المصريين، وليس من الممكن أيضا تبرير صمت الأزهر وشيخه عن الكثير من جرائم السيسي ونظامه عقب الإنقلاب بما في ذلك السماح باقتحام جامعة الأزهر نفسها،، ولكن ليس من المعقول أيضا أن ننسى مواقف قوية لشيخ الأزهر ضد فض اعتصامي رابعة والنهضة، وضد الدماء التي سالت فيهما، ومن قبلهما الدماء التي سالت في الحرس الجمهوري، وسعي شيخ الأزهر للوصول إلى تسوية سلمية قبل عملية الفض كان مقررا أن تعلن في ذاك اليوم، وربما كان ذلك المسعى أحد الأسباب التي دفعت النظام لسرعة فض الاعتصامين قبل إعلان مبادرة الأزهر.

وسط الدخان:

تلك المواقف تاهت وسط دخان المعارك، ونزيف الدماء، فلم يعرها الكثيرون اهتماما حين صدرت بحسبانها مواقف هزيلة لا تتناسب مع جسامة الجرائم التي تمت، والتي كانت تقتضي وفق قناعات البعض استقالة شيخ الأزهر نفسه احتجاجا عليها، لكن من يعيد شريط الأحداث الآن، ويعيد الاستماع إلى تلك المواقف سيدرك انها كانت مواقف قوية بمقاييس وقتها أيضا، إذ أنها صدرت وسط بيئة تحريضية تعزف معزوفة واحدة خلف الجنرال المنقلب، وتطالبه بالتخلص من نصف الشعب المصري على الأقل.

لم ينس السيسي لشيخ الأزهر تلك المواقف كما نسيها معارضوه، ولكنه لم يستعجل إزاحته لأنه كان لا يزال بحاجة إلى وجوده امتدادا لحضوره مشهد 3 يوليو، كما أنه ( السيسي) كانت لديه أولويات أخرى لمعاركه ضد مناهضي الانقلاب العسكري، وضد مناوئيه داخل المؤسسة العسكرية، وما أن أفاق ولو قليلا من تلك المعارك حتى استدار للأزهر مؤسسة وشيخا، فسلط عليه بعض أذرعه الإعلامية تنهش فيه، وتتهمه بدعم الإرهاب، وتفريخ إرهابيين، وبوقوفه ضد ما يسمى بتجديد الفكر الديني والذي يستهدف أساسا فرض فهم مغلوط للقرآن والسنة إرضاء للغرب وعموم الحكام المستبدين في المنطقة والعالم.

دافع الأزهر عن ثوابت الإسلام خلال الفترة الماضية، سواء فيما يخص نفي تهمة الإرهاب عن الإسلام والتي شارك السيسي نفسه في إلصاقها به، أو رفضه لرؤية السيسي فيما يخص قضية الطلاق الشفهي، أودفاعه عن السنة في وجه منكريها، أو إعداده لمشروع متكامل عن الأحوال الشخصية في مواجهة مشاريع دفع بها رجال النظام فيها اجتراء على أحكام الإسلام الثابتة الخ، وفي كل مرة كان الأزهر يصطدم برغبات السيسي، وهو ما تصدى السيسي للرد عليه بطريقة مباشرة حينا أو عبر أذرعه أحيانا، أو عبر تدبير خطة محكمة للتخلص من الشيخ الطيب تجبره على تقديم استقالته من موقعه من تلقاء نفسه تجنبا لأضرار أخرى قد تقع عليه أو على أسرته، أو ربما على الأزهر ذاته، وفي يناير المقبل سيعقد الأزهر مؤتمرا لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية بطلب من السيسي، وسيظهر خلال هذا المؤتمر ما إذا كان شيخ الأزهر سيكون صامدا في مواقفه أم أنه سيجبر على تغيير بعضها لتفويت موجة الغضب ضده.

في مواجهة قايد السبسي:

لم تتوقف دفاعات الأزهر عن ثوابت الإسلام وحقوق المسلمين عند حدود مصر، إذ أنه تصدى بقوة لترويج نظام الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي للمساواة في المواريث بين المرأة والرجل بالمخالفة لنصوص الكتاب والسنة، كما أنه تصدى لحملة تهويد القدس عبر تصميم مقرر دراسي عن القدس يدرس في معاهد الأزهر وكلياته، كما تصدى لمن يلصقون الإرهاب بالإسلام دافعا تلك التهمة، ومذكرا بالجرائم التي إرتكبت ولا تزال ترتكب باسم الدين اليهودي والمسيحي خاصة في عالمنا العربي والإسلامي.

ورغم أن شيخ الأزهر الحالي كان ضد ثورة 25 يناير عند إندلاعها، إلا أن الثورة حفظت للأزهر مكانته اللائقة فنص دستورها الصادر عام 2012 والمعدل في 2014 في مادته السابعة على “الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم . وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. ومنصب شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء” لكن هذا الاستقلال الدستوري لا يزال منقوصا لأن الدولة هي التي تدفع ميزانية الأزهر، وبالتالي تمسك السلطة بيدها الكثير من المفاتيح للتأثير على قراراته وتوجهاته، وحتى يتحقق الإستقلال التام للأزهر فإن على الدولة أن تعيد له أوقافه المنزوعة منه أسوة بما فعلته مع الكنيسة المصرية التي استردت كل أوقافها.

عند الطابق الرابع:

في حوار مع الدكتور جمال عبد الستار الأستاذ بجامعة الأزهر ووكيل وزراة الأوقاف السابق حكى لي أن وزارة الدفاع تدخلت أيام مبارك لوقف بناء كلية الدعوة التي كانت تتم بتبرعات غير حكومية، بحجة أن المبنى يطل على قاعة المؤتمرات، وبعد وساطات قبلت توقف البناء عند الطابق الرابع، وذكر أن سجلات وزارة الأوقاف التي اطلع عليها تثبت أن قاعة المؤتمرات ذاتها، وكل المناطق العسكرية المحيطة بجامعة الأزهر بل معظم المواقع العسكرية في القاهرة الكبرى مقامة على أرض من أوقاف الأزهر، كما أن الكثير من الأراضي التي ضمت للإصلاح الزراعي كانت أيضا من أوقاف الأزهر.

لقد نجح السيسي في تخريب معظم مؤسسات الدولة التي كان الناس يراهنون عليها، وهو يسعى حثيثا لتخريب الأزهر، ومن واجب الشعب وقواه الحية التصدي لهذه الهجمة على الأزهر، فالأمر لا يخص شخصا بعينه هو شيخ الأزهر بما له وما عليه، بل يمس مؤسسة عريقة يفخر بها كل مصري وكل مسلم، كما أن على شيوخ الأزهر الصمود في وجه هذه الهجمة، ومواجهتها بحزم، وأخيرا يمكن القول أن مؤسسة الأزهر هي المؤسسة الوحيدة الآن القادرة على استعادة لحمة الشعب المصري التي مزقها الإنقلاب، وواجب عليها التحرك في هذا الاتجاه عاجلا غير آجل إنقاذا للبلاد والعباد وحسبة لله وقياما بواجبها الشرعي والوطني.