رسالة من أ. د. محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه. أما بعد..
لقد كشفت الثورات العربية عن إيجابية شعوبنا، وصلابة الأجيال القادمة التي استوعبت عِبَر الماضي ودروس الحاضر، وذهبت بهداية من ربها تصنع مستقبل الأمة بأسرها، وتمضي في هذا الاتجاه بقوة من الله معتمدة على نفسها؛ حيث انهارت صور التبعية المُهينة، والخضوع الزائف، والانصياع المصنوع، فعلمت بحق كيف تتعامل مع الشأن الداخلي لبناء أوطانها، والتفاعل مع الخارج بقواه المتنوعة لصنع مستقبلها.
وإننا لنرجو أن تحذوَ كل القوى المحلية والإقليمية والدولية- التي بدأت أغلبيتها تستوعب درس الثورات- حذو الشعوب في اتجاهها الثوري ونضالها السلمي، وتدور في فلكها ولا تدور عكس إرادة الشعوب؛ لأنها هي الغالبة بإذن الله.
إلى الغرب عامةً وأمريكا خاصة:
إننا ندعو الإدارات الحاكمة في الغرب، والإدارة الأمريكية بوجه خاص، إلى أن يستوعبوا درس الثورات العربية، وأن يحترموا حقوق الشعوب بلغة جديدة هي لغة المصالح التي لا يقيمون فيها وزنًا لمبادئ ولا لقيم؛ فقد كانوا يسعَوْن ويهرولون إلى مواطن البترول، ونهب ثروات الغير، بتواطؤ مع بعض الحكام الظلَمة، غير عابئين بقتل الأبرياء ولا تحطيم المقدرات ولا تمزيق البلدان؛ فالشعوب بإذن الله ستنتصر، وحتى شعوبكم الأوروبية والأمريكية لن تسكت عن الكيل بمكيالين، ولا عن ظلمكم غيرَكم بعد أن انكشفت جرائمكم وأكاذيبكم المضللة التي سرعان ما فُضحَت، وما جنوب إفريقيا وأفغانستان والصومال والعراق منا ببعيد، وما أسلحة الدمار الشامل الكاذبة وفزاعة الإسلام الإرهابي المضللة إلا إحدى هذه الصور التي ظهر زيفها وكذبها وتضليلها، ونقول لكم بكلِّ الصدق: إن مصالحكم لن يحميها إلا الشعوب الحرة الصادقة في وعودها وعلاقات قائمة على الاحترام المتبادل لا على التبعية والإذلال.
هل يفهمون؟!
إن القوى الاستعمارية- وعلى رأسها الإدارة الأمريكية التي صدمتها مفاجأة ثورات عربية صنعها الله بإرادة شعوبها- لا تزال تظن أن استخدامها الوسائل القديمة من مكر وكيد، سيحقق لها أهدافها لتستعيد دورها المهيمن على المنطقة مرة أخرى، إن هذا الظن سيخيب رجاؤه؛ فإن الشعوب عادت إليها عافيتها، فسيظل وعي ميدان التحرير في مصر وكل الميادين العربية شاهدًا قويًّا على ذلك؛ فالشعوب بإذن الله قادرة على تكوين مؤسساتها بإرادة حرة تراقب وتحاسب حكامها، فيكون القرار قرارها، والاختيار اختيارها؛ فقد استيقظت من غفلتها، وذاقت حلاوة حريتها، ولن يخدعها أحد ولن تقوى على مواجهتها قوة بعد اليوم بإذن الله؛ فالقدر قد استجاب، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وهو الذي هزم الأحزاب وحده، وعلى الباغي تدور الدوائر.
لماذا يغفل الغرب عن حقائق اليوم؟!
إن الأوضاع المتردية التي آلت إليها بلداننا العربية، هي التي أيقظت ضمير وهمة الشعوب، وكسرت الحواجز، وانطلقت ثوراتها فكشفت حقيقة هشاشة هذه المؤامرات الصهيو- أمريكية وضعف هذه القوى الدكتاتورية التي ساندتها من هؤلاء الحكام الذين فرطوا في المصالح الوطنية لبلادهم، وقتلوا شعوبهم من أجل البقاء على الكرسي في نظام حكم نخر فيه سوس الفساد والظلم ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)﴾ (النحل).
وللأسف، لا تزال الإدارة الأمريكية على نهجها؛ تهدد باستخدام الفيتو ضد حقوق الشعب الفلسطيني، فيما لا تستطيع الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن أن يُلزموا السلطة الصهيونية الغاصبة بتنفيذ قرار واحد من قراراتهما التي لا يقيم لها الكيان الصهيوني وزنًا، وها هو تقرير "بارمر" يُقر بحصار ظالم وباطل على أهل غزة أرض العزة، فهل يفيق مجلس الأمن والأمم المتحدة والإدارة الأمريكية والإدارات الغربية ولو مرة واحدة لمناصرة الحق الفلسطيني والوقوف في وجه الصلف الصهيوني، ويُشعرون العالم بأنهم قد استفادوا من درس الثورات العربية ورجعوا إلى الحق؟!
نرجو ونأمل أن نرى هذا التغيير؛ حتى يعم العالمَ السلامُ، وتعود الحقوق إلى أصحابها إن كانوا بحق طلاب عدل وسلام. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).
أبناء الثورات العربية:
إن أبناء هذه الثورات، بما قدموه ويقدمونه من دماء وجراحات وتضحيات، لا بد أن يكملوا مسيرة النجاح، فلا تُسرَق منهم الانتصارات، ولا تُنهَب منهم المكاسب، وهم قادرون على ذلك، وها هو الإمام البنا يلخِّص لنا الموقف وما يتطلبه فيما يلي: "إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه، والمساومة عليه والخديعة بغيره"، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾ (آل عمران)؛ فالنصر مع الصبر، والغَلَبة للصابرين.
فيا أبناء الثورات، أنتم أجناد الله في الأرض، والله يبشركم بالغلبة في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ (173)﴾ (الصافات)، فتوحدوا واعتصموا بحبل الله المتين، وغلِّبوا مصالح أوطانكم على مصالحكم الشخصية، واصبروا فإن النصر مع الصبر، وانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾ (محمد).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والله أكبر ولله الحمد.