في حياة الأمم والشعوب أيام لا تنسى، ذاقت فيها حلاوة الانتصارات أو مرارة الانكسارات أمام أعدائها، وكلما حلت ذكراها قامت تحتفل، أو جلست تحلل وتعلل.
وعندنا نحن المصريين يوم لا يغيب عن ذاكرتنا ومخيلتنا؛ لأننا نعيش فيه كل يوم منذ وقعت أحداثه، ذلكم يوم فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، ذلك لأن أبشع مجزرة ومحرقة في تاريخ مصر وقعت فيه، فقد استشهد فيه عدة آلاف قنصا وحرقا، وأصيب واعتقل أضعاف عددهم، وحرق المسجد ومصاحفه، والمستشفيات بمصابيها، في وحشية ينأى عنها أعدى أعداء الإنسانية.
والأدهى من هذا أن جيش مصر وشرطتها هي التي قامت بهذه الكارثة ضد قطاع كبير من شعبها، وهما المؤسستان المنوط بهما حماية هذا الشعب من أعداء الداخل والخارج، ويتقاضون من أجل ذلك رواتبهم ، وتُشترى لهم أحدث الأسلحة، وتُبذل لذلك الأموال الطائلة من قوت الشعب.
وتم ذلك من أجل سيطرة قادة الانقلاب على الحكم، بعد خيانة واضحة للأمانة، ونكث صريح بالعهد والقسم، ومصادرة لإرادة الشعب، وانغماس شديد في السياسة، واختطاف إجرامي للرئيس المدني المنتخب لأول مرة في مصر، وانقلاب على الدستور المستفتى عليه.
فلما خرجت جماهير الشعب تستنكر ذلك وتتمسك بالشرعية الدستورية والإرادة الشعبية والانتخابات النزيهة قامت قيادة الجيش والشرطة باستخدامهما ضد إخوتهم في الدين والوطن والإنسانية، وقتلت وحرقت واعتقلت ودمرت؛ لإثارة الرعب لدى الشعب، وإجباره على الخضوع لحكم العسكر الفاشي الديكتاتوري الدموي، ولكن الشعب الحر أبى، ولا يزال مستمرا في ثورته مصرا على تحقيق أهدافها من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية مهما كانت قسوة الحكم العسكري الفاشي.
هذا الحكم العسكري الذي وصفه قائد الانقلاب الدموي بأنه سيسبب تخلف مصر أربعين سنة، والذي أقسم بأغلظ الأيمان بأنهم وأنه شخصيا لا يسعون إليه، وأن انحياز الجيش لفصيل سياسي ضد آخر من شأنه أن يقود مصر إلى المسار السوري، ومع ذلك داسوا على هذا الكلام كله، واستولوا على الحكم ، وراحوا يعسكرون الدولة.
ومن أجل تحقيق ذلك صادروا الحريات، وأغلقوا الصحف والفضائيات المعارضة، وقتلوا وسجنوا الصحفيين، وحكموا عليهم بتهم باطلة.
واعتقلوا ما يزيد على أربعين ألفا من الأحرار والشرفاء وأساتذة الجامعات والعلماء والمهنيين والطلاب والعمال وجميع طوائف الشعب المصري، ولم يُسْتَثن حتى النساء والفتيات والأطفال، وانتُهكت كلُّ حقوقهم الإنسانية، وتعرضوا للتعذيب الوحشي الممنهج.
ووُظفت كل مؤسسات الدولة في نقيض ما قامت له، فالإعلام صار بوقا لسلطة العسكر يسبح بحمدها ليل نهار ، ويبارك الديكتاتورية والفساد، ويفتري الكذب على المعارضين، ويشوه صورة الأحرار، وينسب إليهم كل النقائص، ويتهمهم بالخيانة، ويحرض عليهم.
والقضاء صار أداة للظلم، فاعتقال الرافضين للانقلاب حوله إلى حبس احتياطي بالقانون، والمحاكمات لا تستند إلى أدلة وإنما إلى وشايات الضباط، وحقوق المتهمين مهدرة ودفاعهم عاجز عن الدفاع، والأحكام قاسية بشعة، ويكفي أن المئات يحكم عليهم بالإعدام في جلسة أو جلستين لا تستغرقان من الزمن أكثر من ساعة، حتى أصبح العالم كله يسخر -للأسف الشديد - من منظومة القضاء والعدالة في مصر.
والانتخابات والاستفتاءات كلها مزورة، والتشريع كله أصبح في يد العسكر، والاقتصاد والمشروعات المدنية استولى عليها الجيش في سعار محموم على المال، وكأنه صار شركة اقتصادية ضخمة تعمل في كل المجالات إلا المهمة الأساسية وهي الدفاع .
وبعد عام من الانقلاب العسكري الدموي المشؤوم زاد الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار وإغلاق المصانع وهروب المستثمرين وانخفاض سعر العملة وسوء الخدمات، حتى بات الشعب يئن تحت وطأة الحاجة والإرهاب الحكومي .
إن هذه المجازر والخسائر حدثت كلها لتحقيق أطماع قادة الانقلاب في السلطة والثروة، ولإدخال مصر بيت الطاعة والتبعية للغرب وخدمة الصهاينة، بعد أن جاء نظام حكم شعبي مدني منتخب بنزاهة ليحرر مصر من التبعية، ويحافظ على كرامتها وكرامة كل مصري في الداخل والخارج، ويتعامل بندية مع جميع دول العالم، ويسعى للإصلاح والنهضة والتطهير والقضاء على الفساد، واستقلال القرار والاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء والسلاح، والانحياز للحق والعدل في قضايا الأمة والإقليم والعالم، واحترام الهوية الإسلامية، والتمسك بالمشروع الإسلامي في الحكم لتقديم نموذج حضاري إنساني للعالم، واحترام سيادة الشعب ومبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا كله يراه الغرب والصهاينة ضد مصالحهم، ومن ثم حرضوا على الانقلاب عليه .
كما أن هناك عدداً من الدول العربية رأت في النموذج الديمقراطي الإسلامي الحر خطراً على أنظمتها المستبدة، خشية أن يحرك شعوبها ضدها وتطالبها بالمثيل، فتآمرت على النظام المصري المدني الوليد، وفتحت خزائنها للانقلاب وما زالت؛ حتى تتجنب المصير الإصلاحي الشعبي العادل.
ورغم كل ذلك فإن الشعب المصري الحر لا يزال متمسكاً بحقه في الحرية والسيادة والكرامة، ولا يزال في حراكه الثوري الرائع منذ أكثر من عام لم ينقطع، ولا يزال يقدم الشهداء في الشوارع والميادين والمعتقلين في السجون دون تردد، مصراً على استعادة ثورته، ورافضاً للخضوع لحكم العسكر الإرهابي المتخلف .
إن هذا الشعب يثق في ربه الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً، والذي جعل قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعاً، والذي جعل حرمة الدم أشد حرمة من الكعبة المشرفة، والذي أهلك فرعون وهامان وجنودهما بعد أن (قَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، و(قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، وأذله الله قبل أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
هذا الشعب مطمئن إلى أن الله يختبره ولكنه لن يخذله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وأن نصر الله قادم، وأن هزيمة الانقلابيين ومن وراءهم مؤكدة بإذن الله.
ومن ثم فهو مستمر في حراكه الثوري المبدع، ولن يدخر وسعا، ولن يبخل بتضحية مهما غلت، حتى يأتي وعد الله، ويتحرر هذا الشعب الكريم ومن ورائه الأمة من الظلم والطغيان، وسيجعل من ذكرى يوم فض رابعة والنهضة فرصة لتجديد ثورته في كل ميادين مصر ومدنها وقراها، ومددا وزادا دافعا في اتجاه تحقيق أهدافها الكريمة بإذن الله.
إننا لا نرى قادة الانقلاب الدموي ومن أطاعهم في قتل الراكعين الساجدين في رابعة والنهضة وغيرهما إلا وهم يخوضون في الدماء ويتلطخون بدماء الشهداء الأحرار التي تنادي بالقصاص العادل ، وسوف يتحقق هذا القصاص في الدنيا قبل الآخرة بإذن الله .
إن رابعة والنهضة وأخواتهما أصبحت نموذجا ملهما للإيمان والصبر والثبات والشجاعة والإقدام، وسوف يستحضر هذا الجيل والأجيال القادمة صورهم ويستلهم عزهم، ويقتدي بهم؛ ذلك لأنه كان ثباتا عادلا سلميا وطنيا، وستظل هذه الأحداث عارا يلاحق الخونة والقتلة الآن، وفي صفحات التاريخ ويوم يقوم الناس لرب العالمين للحكم والقضاء والعادل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
والله أكبر ولله الحمد.