طالع ما سبق نشره :
(1) (2) (3) (4) (5) (6)
 
بقلم : الشيخ عبد الله علوان

الفصل الثاني - مسؤوليات المربين
نقصد بالتربية الخُلقية مجموعة المبادئ الخُلقية، والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الطفل ويكتسبها ويعتاد عليها منذ تمييزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفاً إلى أن يتدرج شاباً إلى أن يخوض خضمّ الحياة..
ومما لا شك فيه، ولا جدال معه أن الفضائل الخلقية والسلوكية والوجدانية هي ثمرة من ثمرات الإيمان الراسخ، والتنشئة الدينية الصحيحة...
فالطفل منذ نعومة أظفاره حين ينشأ على الإيمان بالله، ويتربّى على الخشية منه، والمراقبة له، والاعتماد عليه، والاستعانة به، والتسليم لجنابه فيما ينوب ويروع.. تصبح عنده الملكة النفطرية، والاستجابة الوجدانية لتقبل كل فضيلة ومكرمة، والاعتياد على كل خلق فاضل كريم.. لأن الوازع الديني الذي تأصل في ضميره، والمراقبة الإلهية التي ترسخت في أعماق وجدانه، والمحاسبة النفسية التي سيطرت على تفكيره وإحساساته.. كل ذلك بات حائلاً بين الطفل وبين الصفات القبيحة والعادات الآثمة المرذولة، والتقاليد الجاهلية الفاسدة.. بل إقباله على الخير يصبح عادة من عاداته، وتعشقه المكارم والفضائل يصير خُلقاً أصيلاً من أبرز أخلاقه وصفاته...
ومما يؤكد هذا نجاح التجربة العملية التي يسلكها الكثير من الآباء المتدينين مع أبنائهم، وكثير من المرشدين والمربين مع مريديهم وتلاميذتهم، فهذه التجربة أصبحت معلومة في سيرة السلف، وعالم الواقع.. وسبق أن ذكرنا موقف "محمد بن سوار" من ابن أخته "التستري" في تربيته على الإيمان، وإصلاح نفسه ووجدانه، ورأينا أن نفسه قد صلحت لما رباه خاله على مراقبة الله، والخشية منه، والاعتماد عليه... وذلك في ملاحقته على أن يردّد في سره وعلنه، وظاهره وباطنه، واجتماعه وخلوته:
"الله معي، الله ناظر إليّ، الله شاهدي".
وحينما تكون التربية للطفل بعيدة عن العقيدة الإسلامية، مجردة من التوجيه الديني، والصلة بالله عز وجل.. فإن الطفل – لا شك – يترعرع على الفسوق والانحلال، وينشأ على الضلال والإلحاد، بل سيُتبع نفسه هواها، ويسير خلف نوازع النفس الأمارة، ووساوس الشيطان، وفقاً لمزاجه وأهوائه وأشواقه الهابطة.
(فإن كان مزاجه من النوع "الهادئ المسالم" عاش في الحياة غافلاً بليداً، حيّاً كميِّت، وموجوداً كمفقود، ولا يحس أحد بحياته، ولا يترك فراغاً بعد موته، ورحم الله من قال:
فذاك الذي إنْ عاش لم يُنتفع به
وإنْ مات لا تبكي عليه أقاربُه
وإن كان يغلب على نفسه الجانب "البهيمي" جرى وراء الشهوات والملذّات يقتحم إلى بلوغها كل حرمة، ويسلك من أجلها كل طريق.. لا حياء يردعه، ولا ضمير يقمعه، ولا عقل يمنعه، يقول ما قاله أبو النواس:
إنما الدنيا طعام
وشراب وَنَدام[1]
فإذا فاتك هذا
فعلى الدنيا السلام
وإن كان مزاجه من النوع "العصبي" جعل همه العُلوّ في الأرض، والاستكبار على الناس، وإظهار السلطة والتحكم في الرقاب، والفخر بلسانه، والاختيال بفعاله، ولم يهمه في سبيل ذلك أن يبني قصراً من جماجم البشر، وأن يزخرفه بدماء الأبرياء، شعاره ما قاله الشاعر الجاهلي:
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
بغاة ظالمين وما ظُلمنا
ولكنّا سنبدأ ظالمينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً
تخرّ له الجبابر ساجدينا
وإن كان يغلب عليه الجانب "الشيطاني" دبر المكائد، وفرق بين الأحبة، ووضع الألغام ليدمر، وسمّم الآبار ليقتل، وعكر المياه، ليصطاد، وزيّن الإثم، وأغرى بالفاحشة، وأوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وقال مع الشاعر:
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنما
يُرجّى الفتى كيما يضر وينفعا
وهكذا يدور كل من هؤلاء حيث تدور نفسه الأمّارة، ويندفع حيث يدفعه مزاجه المنحرف، وينقاد لأمر هواه، والهوى يعمي ويُصم، وهو إله معبود، قال تعالى:
{ومن أضل ممن اتَّبع هواه بغير هدىً من الله}[2] القصص: 50.
والذي نخلص إليه بعدما تقدم: أن التربية الإيمانية هي التي تعدّل المزاج المنحرف، وتقوّم المعوج الفاسد، وتصلح النفس الإنسانية.. وبدونها لا يمكن أن يتحقق إصلاح، ولا أن يتم استقرار، ولا يتقوّم خلق...
ولهذه الصلة الوثيقة بين الإيمان والأخلاق، والرابطة المتينة بين العقيدة والعمل انتبه علماء التربية والاجتماع في الغرب، وفي كثير من الأمم.. فأصدروا توجيهاتهم، وأعلنوا عن آرائهم ووجهات نظرهم بأنه من غير دين لا يتم استقرار، وبغير إيمان بالله لا يتحقق إصلاح، ولا يتقوم خُلُق..
وإليكم طائفة من آرائهم وتوجيهاتهم:
• قال الفيلسوف الألماني "فيخته" : (الأخلاق من غير دين عبث).
• قال الزعيم الهندي المعروف "غاندي" : (إن الدين ومكارم الأخلاق هما شيء واحد لا يقبلان الانفصال، ولا يفترق بعضهما عن بعض، فهما وحدة لا تتجزأ.. إن الدين كالروح للأخلاق، والأخلاق كالجو للروح، وبعبارة أخرى الدين يغذي الأخلاق وينميها وينعشها، كما أن الماء يغذي الزرع وينميه).
• وقال القاضي البريطاني "ديننج" معقباً على فضائح وزير بريطاني سابق في علاقة خلقية: (بدون الدين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق، وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون!!.. الدين هو المصدر الفذ المعصوم الذي يعرف منه حسن الأخلاق من قبيحها، والدين هو الذي يربط الإنسان بمَثَل أعلى يرنو إليه، ويعمل له، والدين هو الذي يحد من أنانية الفرد، ويكفكف من طغيان غرائزه، وسيطرة عاداته، ويخضعها لأهدافه ومُثله، ويربي فيه الضمير الحي الذي على أساسه يرتفع صرح الأخلاق).
• وسبق أن ذكرنا تصريح الفيلسوف "كانت" الذي يقول: (لا وجود للأخلاق دون اعتقادات ثلاثة: وجود الإله، وخلود الروح، والحساب بعد الموت).
فلا عجب بعد الذي ذكرناه أن تُولي شريعة الإسلام اهتمامها البالغ بتربية الأولاد من الناحية الخُلقية، وأن تصدر توجيهاتها القيمة في تخليق الولد على الفضائل والمكارم، وتأديبه على أفضل الأخلاق، وأكرم العادات!.
وإليكم أهم هذه التوصيات والتوجيهات في تربية الولد من الناحية الخلقية والسلوكية:
- روى الترمذي عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نَخَل[3] والد ولداً من نُخْلٍ أفضل من أدب حسن".
- وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم".
- وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغيرهما من حديث علي رضي الله عنه: "علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم".
- وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه، ويحسن اسمه".
- وروى ابن حبان عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الغلام يُعَقّ[4] عنه يوم السابع، ويُسمّى، ويماط عنه الأذى، فإذا بلغ ست سنين أُدّب، وإذا بلغ تسع سنين عُزل عن فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضُرب على الصلاة والصوم، فإذا بلغ ست عشرة زوجه أبوه، ثم أخذ بيده وقال: قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، وأعوذ بالله من فتنتك في الدنيا، وعذابك في الآخرة".
فيؤخذ من مجموعة هذه الأحاديث التربوية على المربين – ولا سيما الآباء والأمهات – مسؤولية كبرى في تأديب الأولاد على الخير، وتخليقهم على مبادئ الأخلاق.
ومسؤوليتهم في هذا المجال مسؤولية شاملة بكل ما يتصل بإصلاح نفوسهم، وتقويم اعوجاجهم، وترفّعهم عن الدنايا، وحسن معاملتهم للآخرين..
فهم مسؤولون عن تخليق الأولاد منذ الصغر على الصدق، والأمانة، والاستقامة، والإيثار، وإغاثة الملهوف، واحترام الكبير، وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار، والمحبة للآخرين..
ومسؤولون عن تنزيه ألسنتهم من السباب، والشتائم والكلمات النابية القبيحة، وعن كل ما ينبئ عن فساد الخلق، وسوء التربية..
ومسؤولون عن ترفعهم عن دنايا الأمور، وسفاسف العادات، وقبائح الأخلاق، وعن كل ما يحط بالمروءة والشرف والعفة..
ومسؤولون عن تعويدهم على مشاعر إنسانية كريمة، وإحساسات عاطفية نبيلة، كالإحسان إلى اليتامى، والبر بالفقراء، والعطف على الأرامل والمساكين..
إلى غير ذلك من هذه المسؤوليات الكبيرة الشاملة التي تتصل بالتهذيب، وترتبط بالأخلاق..
وإذا كانت التربية الفاضلة في نظر الإسلام تعتمد في الدرجة الأولى على قوة الملاحظة والمراقبة.. فجدير بالآباء والأمهات والمعلمين، وكل من يهمه أمر التربية والأخلاق.. أن يلحظوا في الأولاد ظواهر أربعة، وأن يعيروها اهتمامهم لكونها من أقبح الأعمال، وأحط الأخلاق، وأرذل الصفات..
وهذه الظواهر مرتبة كما يلي:
1- ظاهرة الكذب.
2- ظاهرة السرقة.
3- ظاهرة السباب والشتائم.
4- ظاهرة الميوعة والانحلال.
• أما ظاهرة الكذب فإنها من أقبح الظواهر في نظر الإسلام، فواجب على المربين جميعاً أن يُعيروها اهتمامهم، وأن يركّزوا عليها جهودهم، ليقلع الأولاد عنها، وينفروا منها، ويتجنبوا مزالق الكذب، وقبائح النفاق.
- ويكفي الكذب تشتنيعاً وتقبيحاً أن عدَّة الإسلام من خصائل النفاق: روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
- ويكفيه تشنيعاً وتقبيحاً أن من يزاوله يكون في سخط الله وعذابه: روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، ومَلِك كذاب، وعائل مستَكْبِر".
- ويكفيه تشنيعاً وتقبيحاً أن من يعتاده يكتب عند الله من الكاذبين: روى الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً".
- ويكفيه تشنيعاً وتقبيحاً أن عدَّه عليه الصلاة والسلام خيانة كبيرة: روى أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كبرتْ خيانة أن تُحدّث أخاك حديثاً هو لك مُصدّق، وأنت له به كاذب".
فإذا كان هذا شأن الكذب والكذابين فما على المربين إلا أن يُنفِّروا أبناءهم منه، وينهوهم عنه، ويحذروهم عواقبه، ويكشفوا لهم عن مضاره وأخطاره.. حتى لا يقعوا في حبائله، ويتعثروا في أوحاله وينزلقوا في متاهاته...
وإذا كانت التربية الفاضلة في نظر المربين تعتمد على القدوة الصالحة.. فجدير بكل مربّ مسؤول ألا يكذب على أطفاله بحجة إسكاتهم من بكاء، أو ترغيبهم في أمر، أو تسكينهم من غضب.. فإنهم إن فعلوا ذلك يكونون قد عوّدوهم عن طريق الإيحاء والمحاكاة والقدوة السيئة على أقبح العادات، وأرذل الأخلاق ألا وهي رذيلة الكذب.. عدا عن أنهم يفقدون الثقة بأقوالهم، ويضعف جانب التأثير بنصائحهم ومواعظهم.
لهذا كله نرى المربي الأول والمرشد الكامل محمداً صلوات الله وسلامه عليه قد حذر الأولياء والمربين من الكذب أمام أطفالهم ولو بقصد الإلهاء أوالترغيب أوالممازحة، حتى لا تكتب عليهم عند الله كذبة.. روى أبو داود والبيهقي عن عبد الله ابن عامر رضي الله عنه قال: دعتني أمي يوماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت أدرت أن أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو لم تُعطيه شيئاً كُتبتْ عليك كَذْبة".
وروى أحمد وابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لصبيّ هاك[5]، ثم لم يعطه فهي كَذْبة".
ومن طرائف ما يروى في تعويد السلف أولادهم على الصدق ومعاهدتهم عليه هذه القصة: يقول العالم الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله: "بنيْتُ أمري – من حين ما نشأت – على الصدق، وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم، فأعطتني أمي أربعين ديناراً أستعين بها على النفقة، وعاهدتني على الصدق، فلما وصلنا أرض همدان خرج علينا جماعة من اللصوص، فأخذوا القافلة، فمرّ واحد منهم وقال لي: ما معك؟ قلت: أربعون ديناراً، فظن أني أهزأ به فتركني، فرآني رجل آخر، فقال: ما معك، فأخبرته بما معي، فأخذني إلى كبيرهم، فسألني فأخبرته، قال: ما حملك على الصدق؟ قلت: عاهدتني أمي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها!!.. فأخذت الخشية رئيس اللصوص، فصاح ومزق ثيابه، وقال: أنت تخاف أن تخون عهد أمك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله؟!!.. ثم أمر بردّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أن تائب لله على يديك، فقال من معه: أنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة، فتابوا جميعاً ببركة الصدق".
• أما ظاهرة السرقة فهي لا تقل خطراً عن ظاهرة الكذب، وهي متفشية في البيئات المتخلّفة التي لم تتخلق بأخلاق الإسلام، ولم تتربَّ على مبادئ التربية والإيمان..
ومن المعلوم بداهة أن الطفل منذ نشأته إن لم ينشأ على مراقبة الله والخشية منه، وإن لم يتعود على الأمانة وأداء الحقوق.. فإن الولد – لا شك – سيدرج على الغش والسرقة الخيانة، وأكل الأموال بغير حق، بل يكون شقيّاً مجرماً يستجير منه المجتمع، ويستعيذ من سوء فعاله الناس...
لهذا كان لزاماً على الآباء والمربين أن يغرسوا في نفوس أبنائهم عقيدة المراقبة لله، والخشية منه، وأن يعرفوهم بالنتائج الوخيمة التي تنجم عن السرقة وتستفحل بسبب الغش والخيانة، وأن يبصروهم بما أعد الله للمجرمين المنحرفين من مصير فاضح، وعذاب أليم يوم القيامة...
ومن المؤلم أن كثيراً من الأمهات والآباء لم يراقبوا أولادهم مراقبة تامة فيما يرونه معهم من أمتعة وأشياء ونقود.. فبمجرد أن يدعي الأولاد أنهم التقطوها من الشارع، أو أهداها لهم أحد الرفقاء.. صدَّقوهم، وأخذوا بأقوالهم الكاذبة، دون أن يكلّفوا أنفسهم مهمة التدقيق والتحقيق!!.. ومن الطبيعي أن يبرّر الولد لسرقته مثل هذه الادعاءات الباطلة مخافة الاتهام والفضيحة، ومن الطبيعي أن يتمادى الولد في الإجرام حين لم يجد من مربيه البحث الدقيق، والاهتمام البالغ...
والأقبح من ذلك أن يجد الولد من أحد أبويه من يدفعه إلى السرقة، ويشجّعه عليها.. فإن الولد – ولا شك – سيكون عريقاً في الإجرام، متمادياً في الانحراف واللصوصية..
وهل يُرجى لأطفال كمال
إذا ارتضعوا ثُديّ الناقصات
(حكمت إحدى المحاكم الشرعية على سارق بعقوبة القطع، فلما جاء وقت التنفيذ، قال لهم بأعلى صوته، قبل أن تقطعوا يدي اقطعوا لسان أمي، فقد سرقت أول مرة في حياتي بيضة من جيراننا فلم تؤنبني، ولم تطلب إليّ إرجاعها إلى الجيران، بل زغردت وقالت: الحمد لله، لقد اصبح ابني رجلاً، فلولا لسان أمي الذي زغرد للجريمة لما كنت في المجتمع سارقاً)[6].
وإليكم – يا معشر الآباء والأمهات – بعض النماذج في استقامة أبناء السلف الصالح، وفي حرصهم على أداء الحقوق، والتزامهم خُلق الأمانة، ومراقبتهم لله عز وجل في المتقلب والمثوى، والسر والعلانية.
- أصدر عمر رضي الله عنه قانوناً يمنع غش اللبن يخلط بالماء.. ولكن هل تستطيع عين القانون أن ترى كل مخالف وأن تقيض على كل خائن وغاشٍّ؟ القانون أعجز من هذا.. الإيمان بالله والمراقبة له هو الذي يعمل عمله في هذا المجال.. وهنا تحكي القصة المشهورة حكاية الأم وابنتها: الأم تريد أن تخلط اللبن طمعاً في زيادة الربح، والبنت المؤمنة تذكّرها بمنع أمير المؤمنين.
وتردّ الابنة بالجواب المفحم: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فرَبُّ أمير المؤمنين يرانا!!.
- وقال عبد الله بن دينار: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة.. فانحدر بنا راعٍ من الجبل، فقال له عمر ممتحناً: يا راعي! بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إن مملوك، فقال عمر: قل لسيدك أكلها الذئب. فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه ثم غدا مع المملوك، فاشتراه من مولاه وأعتقه، وقال له: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة.
• أما ظاهرة السباب والشتائم فإنها من أقبح الظواهر المتفشية في محيط الأولاد، والمنتشرة في البيئات المتخلّفة عن هدي القرآن، وتربية الإسلام.. والسبب في ذلك يعود إلى أمرين أساسيين:
الأول – القدوة السيئة:
فالولد حينما يسمع من أبويه كلمات الفحش والسباب، وألفاظ الشتيمة والمنكر.. فإن الولد – لا شك – سيحاكي كلماتهم، ويتعود ترداد ألفاظهم...
فلا يصدر منه في النهاية إلا كلام فاحش، ولا يتلفّظ إلا بمنكر القول وزوره.
الثاني – الخلطة الفاسدة:
فالولد الذي يُلقى للشارع، ويترك لقرناء السوء، ورفقاء الفساد.. فمن البديهي أن يتلقن منهم لغة اللعن والسباب والشتيمة.. ومن الطبيعي أن يكتسب منهم أحطّ الألفاظ، وأقبح العادات والأخلاق، وينشأ على أسوأ ما يكون من التربية الفاسدة، والخلق الأثيم.
لهذا كله وجب على الآباء والأمهات والمربين جميعاً.. أن يعطوا للأولاد القدوة الصالحة في حسن الخطاب، وتهذيب اللسان، وجمال اللفظ والتعبير.. كما يجب عليهم أن يجنبوهم لعب الشارع، وصحبة الأشرار، وقرناء السوء حتى لا يتأثروا من انحرافهم، ويكتسبوا من عاداتهم.. ويجب عليهم كذلك أن بصروهم مغبّة آفات اللسان، ونتيجة البذاءة في تحطيم الشخصية، وسقوط المهابة، وإثارة البغضاء، والأحقاد بين أفراد المجتمع.
وأخيراً وجب على المربين أيضاً أن يلقنوا أولادهم الأحاديث التي تُحذِّر من السباب والشتائم، والتي تبيّن ما أعد الله للفحّاشين واللعّانين من إثم كبير، وعذاب أليم.. عسى أن ينزجروا بها، ويتأثروا بتوجيهاتها ومواعظها..
وإليكم بعض الأحاديث النبوية التي تنهى عن السباب، وتحذر من الشتائم:
- "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" البخاري ومسلم وغيرهما.
- "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبّ الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه". البخاري وأحمد.
- "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم" البخاري.
- "وهل يكُبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" أصحاب السنن وأحمد.
- "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء" رواه الترمذي.
فما أجمل الولد حين يتلفظ الألفاظ الجميلة، والكلمات الحلوة الطريفة، وما أحسنه حين يؤدب على المنطق الرصين، والتعبير الظريف!!.. وما أكرمه حينما يستهجن ما يسمعه من لغة اللعن والسبّ والبذاءة!!.. فلا شك أنه يكون ريحانة في البيت، وشامة في الناس.
وإليكم نموذجاً يبين ما كان عليه أولاد السلف من أدب الكلام، وحسن الخطاب، وجمال القول، لتعلموا – أيها الآباء – كيف كان الأولاد في الماضي يتحدثون ويتكلمون:
قَحطتِ البادية في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت القبائل إلى هشام، ودخلوا عليه، وفيهم "درواس بن حبيب" وعمره أربع عشرة سنة، فأحجم القوم، وهابوا هشاماً، ووقعت عين هشام على "درواس" فاستصغره، فقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يصل إليّ إلا وصل، حتى الصبيان؟!. فعلم "درواس" أنه يريده، فقال: يا أمير المؤمنين! إن دخولي لم يُخلّ بك شيئاً ولقد شرّفني، وإن هؤلاء القوم قدموا لأمر أحجموا دونه، وإن الكلام نشر، والسكوت طيّ، ولا يُعرف الكلام إلا بنشره، فقال هشام: فانشر لا أبّا لك!!.. وأعجبه كلامه.
فقال: يا أمير المؤمنين! أصابتنا ثلاث سنين: فسنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة نقّت العظم، وفي أيديكم فضول أموال إن كانت لله ففرقوها على عباد الله المستحقين لها.. وإن كانت لعباد الله فعلامَ تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين.
واعلم يا أمير المؤمنين: أن الوالي من الرعية كالروح من الجسد، لا حياة للجسد إلا به.
فقال هشام: ما ترك الغلام في واحدة من الثلاث عذراً، وأمر أن يقسم في باديته مائة ألف درهم، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم.
فقال يا أمير المؤمنين: ارددها إلى أعطية أهل باديتي فإني أكره أن يعجز ما أمر لهم به أمير المؤمنين عن كفايتهم، فقال: فما لك من حاجة تذكرها لنفسك؟ قال: مالي من حاجة دون عامة المسلمين!.
• أما ظاهرة الميوعة والانحلال فهي من أقبح الظواهر التي تفشّت بين أولاد المسلمين وبناتهم في هذا العصر الذي يُلَقّب بالقرن العشرين، فحيثما أجلت النظر تجد كثيراً من المراهقين والشباب والمراهقات والشابات.. قد انساقوا وراء التقليد الأعمى، وانخرطوا في تيار الفساد والإباحية دون رادع من دين أو وازع من ضمير.. كأن الحياة في تصورهم عبارة عن متعة زائلة وشهوة هابطة ولذة محرمة... فإذا ما فاتهم هذا فعلى الدنيا السلام!!..
وقد ظن بعض ذوي العقول الفارغة أن آية النهوض بالرقص الماجن، وعلامة التقدم بالاختلاط الشائن، ومقياس التجديد بالتقليد الأعمى، فهؤلاء قد انهزموا من نفوسهم، وانهزموا من ذوات شخصياتهم وإرادتهم قبل أن ينهزموا في ميادين الكفاح والجهاد. فترى الواحدج من هؤلاء ليس له هم في الحياة إلا أن يتخنفس في مظهره، وأن يتخلّع في مشيته، وأن يتميّع في منطقه، وأن يبحث عن ساقطة مثله ليذبح رجولته عند قدمها، ويقتل شخصيته في التودد إليها.. وهكذا يسير من فساد إلى فساد، ومن ميوعة إلى ميوعة.. حتى يقع في نهاية المطاف في الهاوية التي فيها دماره وهلاكه..
ورحم الله من قال:
كل من أهمل ذاتيّتَه
فهو أولى الناس طُرّاً بالفناء
لن يرى من الدهر شخصيَّته
كل من قلّد عيش الغُرباء
ولا شك أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد وضح للآباء والأولياء والمربين جميعاً المنهج العلمي، والمبادئ الصحيحة في تربية الولد على الخلق القويم، والشخصية الإسلامية المتميزة...
وإليكم أهم بنود هذا المنهج، وأميز هاتيك المبادئ:
1- التحذير من التشبه والتقليد الأعمى:
- روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خالفوا المشركين: حفُّوا الشارب، وأعفوا عن اللحى" وفي رواية لمسلم "جزّوا الشارب، وأرخوا اللحى، وخالفوا المجوس".
- وروى الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من تشبّه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى".
- وفي رواية لأبي داود: "من تشبه بقوم فهو منهم".
- وروى الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: "لا يكن أحدكم إمَّعةً يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم".
وعليك – أيها القارئ – أن تميز بين أمرين فيما نأخذ من عند الأجانب وفيما ندع:
الأول – الجواز: وذلك استمداد العلم المفيد، والحضارة النافعة كعلم الطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، ووسائل الحرب، وحقائق المادة، وأسرار الذرة.. وغيرها من الحضارات والعلوم النافعة لكونها تدخل في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجة: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، وفي مضمون قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والعسكري والقضاعي: "الحكمة ضالة كل حكيم، فإذا وجدها فهو أحق بها"، وفي عموم قوله تبارك وتعالى:
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..} سورة الأنفال: 61.
الثاني – التحريم: وذلك في تقليد السلوك، والأخلاق، والعادات، والتقاليد، وجميع المظاهر الأجنبية عنا، والأوضاع المنافية لخصائص أمتنا، ومقومات أخلاقنا.. لكونها تؤدي إلى فقدان الذات، وذوبان الشخصية، وهزيمة الروح والإرادة، ونكسة الفضيلة والأخلاق.
2- النهي عن الاستغراق في التنعم:
- في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين في بلاد الفرس: "إيّاكم والتنعُّم وزيّ أهل الشرك".
- وفي رواية للإمام أحمد: "ذروا التنعم وزيّ أهل العجم".
- وروى الإمام أحمد وأبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً: "إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".
والمقصود بالتنعم هو الاستغراق الزائد في الملاذ والطيبات، والتقلب الدائم في النعيم والترف.. ولا يخفى ما في هذه الظاهرة من إخلاد للراحة، وتقاعس عن واجب الدعوة والجهاد، وانزلاق في متاهات الميوعة والانحلال، وسبب لتفشي الأسقام والأمراض..
3- النهي عن الاستماع إلى الموسيقى والغناء الخليع:
- روى الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن منيع، والحارث بن أبي أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير، والمعازف، والخمور، والأوثان التي تعبد في الجاهلية".
- وروى البخاري وأحمد وابن ماجة وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليكوننّ في أمتي أقوام يستحلون الحِرَّ[7]، والحرير، والخمر، والمعازف".
- وروى ابن عساكر في تاريخه، وابن صَصْري في أمياله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مَنْ قعد إلى قَيْنة يستمع منها صبّ الله في أذنيه الآنُك[8] يوم القيامة".
- وروى الترمذسي عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يستمع إلى صوت الروحانيين في الجنة".
ولا يخفى على كل ذي عقل وبصيرة ما في الاستماع إلى هذه المحرمات من أثر على أخلاق الولد، ومن جرّه إلى الترهل والفجور والمنكر، ومن انزلاقه في متاهات الشهوات والملذات!!..
ولا بد في المناسبة أن نذكر كلمة عن حكم الإسلام في اقتناء الجهاز التليفزيوني، ليكون الآباء على بينة وهدى من أمرهم، وعلى علم في أمر حِلِّه أو تحريمه:
"مما لا شك فيه أن اختراع هذه الوسائل الإعلامية من مذياع، وتلفزيون، وآلة تسجيل.. وغيرها تعد من أرقى ما وصل إليه العقل البشري في العصير الحديث، بل من أعظم ما أنتجته الحضاة المادية في الوقت الحاضر، وإنها سلاح ذو حدين: تستعمل للخير، وتستعمل للشر، ولا يختلف اثنان أن هذه الاختراعات المذكورة إن استخدمت في الخير، ونشر العلم، وتثبيت العقيدة الإسلامية، وتدعيم الأخلاق الفاضلة، وربط الجيل الحاضر بأمجاده وتاريخه، وتوجيه الأمة إلى ما يصلحها في أمور دينها ودنياها.. فلا يختلف اثنان في جواز اقتنائها واستعمالها، والاستفادة منها، والاستماع إليها.. أما إذا استعملت لترسيخ الفساد والانحراف، ونشر الميوعة والانحلال، وتحويل الجيل الحاضر إلى طريق غير الإسلام.. فلا يشك عاقل منصف يؤمن بالله واليوم الآخر بحرمة استعمالها، وإثم اقتنائها، ووزر من يستمع إليها.
ونحن لو تتبعنا برامج التلفزيون في بلادنا.. نجد أن أكثر هذه البرامج ترمي إلى هدر الشرف، وتوجه نحو الخنا والزنى، وتشجع على السفور والاختلاط والإباحية، والمفاسد الاجتماعية.. وقليل من برامجه ما يهدف إلى العلم، ويوجه إلى الخير.. وإذا كان الأمر كذلك فإن اقتناء التلفزيون، والنظر إليه، والاستماع إلى برامجه الحالية، يعد من أكبر الحرام، وأعظم الإثم.
وإليكم الدليل على ذلك:
(أ) أجمع العلماء والأئمة المجتهدون في كل العصور على أن مقاصد التشريع الإسلامي خمسة: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسب، وحفظ النفس، وحفظ المال، وقالوا: إن كل ما جاء في الشريعة الإسلامية من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية ترمي إلى حفظ هذه الكليّات الخمس... وباعتبار أن أكثر برامج التلفزيون الحالية من أغان ماجنة، وتمثيليات خليعة، ودعايات مثيرة، وأفلام فاسدة.. تستهدف هدر الشرف، وضياع العِرض، والتشجيع على الزنى والفحشاء.. فإنه من المؤكد أن يحرّم الشرع النظر إليها، والاستماع لها لحفظ النسب والعرض، وبالتالي أن يُحرّم اقتناء الجهاز باعتبار أنه وسيلة إلى النظر والسماع.
(ب) روى مالك وابن ماجة والدارقطني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار". وباعتبار التلفزيون، يوجه في برامجه إلى الميوعة والانحلال، ويثير في المجتمع كوامن الغريزة والشهوة – كما هو مشاهد – فإنه يحرُم على المسلم أن يشتريه، ويدخله بيته، حفاظاً على عقيدة الأسرة وأخلاقها وصحتها، وقطعاً لدابر الأضرار التي تنجم عنه، وتطبيقاً لحديث "لا ضرر ولا ضرار".
(ج) إن أكثر البرامج الترفيهية التي تعرض على شاشة التلفزيون مصحوبة بالمعازف، والغناء الخليع، والرقص المصحوب بالخلاعة والتكشف. وباعتبار أن هذه الأمور محرمة – كما سبق بيانها – فيتبين من أدلة ما ذكرنا أن اقناء التلفزيون مُحرّم لما يصحب البرامج الترفيهية من معازف وموسيقى، وغناء ماجن متميع، ورقصات فاجرة داعرة. وبالتالي كان النظر لهذه البرامج محرماً كذلك لما لها من خطر كبير في تقويض دعائم التربية والأخلاق.."[9].
4- النهي عن التخنث والتشبه بالنساء:
- في الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة، فَخَطَبنا، وأخرج كُبَّةً[10] من شَعْر فقال: ما كنت أرى أن أحداً يفعله إلا اليهود، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزّور. وفي لفظ آخر لمسلم: إن معاوية رضي الله عنه قال ذات يوم: "إنكم قد أحدثتم زي سوء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور".
- وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء". وفي لفظ عند أحمد وأبي داود وابن ماجة: "لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء".
- وروى أبو داود بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه وذهباً فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي".
- وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُرّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحِلّ لإناثهم".
فوضع الشعر المستعار، ولبس الذهب والحرير، وتشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، وخروج النساء كاسيات عاريات.. كل ذلك من مظاهر التخنث والميوعة، وكل ذلك قتل للرجولة، وامتهان للشخصية، وطعنة نجلاء للفضيلة والأخلاق، بل جرٌّ للأمة إلى انحلال فاجر، وإباحية ممقوتة، ودفع بالمراهقين والشباب نحو الفساد والميوعة، ومساوئ الأخلاق..
5- النهي عن السفور والتبرج والاختلاط والنظر إلى المحرمات:
قال تعالى في سورة الأحزاب:
{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً} الأحزاب: 59.
وقال تعالى في سورة النور:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن[11] على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن...} النور: 30-31.
ولكن هل المرأة مأمورة شرعاً بستر وجهها؟
• فلنستمع أولاً: إلى ما قاله علماء التفسير من الصحابة والسلف في تفسير قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} الأحزاب: 59.
- يروي ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق الجلابيب ويبدين عيناً واحدة].
- ويروي ابن جرير عن ابن سيرين قوله: [سألت عبيدة بن الحارث الحضرمي عن قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} .. قال: "فقال بثوبه (أي مثَّل بثوبه)، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه"].
- ويقول العلامة "ابن جرير الطبري" في تفسير هذه الآية:
{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن...} الأحزاب: 59. [لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن يدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض فاسق إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول].
- ويكتب العلامة "أبو بكر الجصاص" فيقول: [في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب (الفساق) فيهن].
- ويكتب القاضي "البيضاوي" في تفسيره لقوله تعالى: {... يدنين عليهن من جلابيبهن...} [أي يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة].
- وعن العلامة "النيسابوري" في تفسير الآية:
{يدنين عليهن من جلابيبهن} ...
[كانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية مبتذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرَّة والأمَة، فأمرن بلبس الأردية، وستر الرأس والوجوه].
يتضح من هذه الأقوال أن الصحابة رضوان الله عليهم، وجميع أهل التفسير والعلم متفقون على أن المرأة المسلمة مأمورة بمقتضى آية: {يدنين عليهن من جلابيبهن...} .. بارتداء الجلباب وستر وجهها عن الأجانب.
• ولنستمع ثانياً: إلى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن نساء الصحابة في مسألة ستر المرأة المسلمة وجهها:
- جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك.. أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المُحرِمة في الحج أن لا تنتقب ولا تلبس القفازين، ويروي أبو داود: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب[12]".
وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعوّدن الانتقاب (الذي هو ستر الوجه)، ولبس القفازين عامة، فنهين عنه في الإحرام، وهذا ليس على إطلاقه كما دلت عليه الأحاديث التي سيأتي ذكرها الآن.
- ففي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جازوا بنا سَدَلَتْ إحدانا (أي غطّت) جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه].
- وفي الموطأ للإمام مالك، عن فاطمة بنت المنذر قالت: [كنا نخمر وجوهنا (أي نغطيها) ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق، فلا تنكره علينا].
- وقد ورد في فتح الباري عن عائشة رضي الله عنها: [تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها].
- وثبت في الصحاح أن امرأة مسلمة كانت تقضي بعض شؤونها في سوق بني قينقاع وكانت محجبة، فاعترضها رجل من اليهود وسخر منها ومن حجابها، ثم أراد منها اللعين أن يجبرها على كشف وجهها، ولكنها رفضت واستغاثت، فكرَّ على اليهودي رجلٌ من المسلمين فقتله جزاء ما اقترفت يداه الآثمتان!!.
يتضح من هذه الأحاديث الصحيحة أن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة.. كن يسترن وجوههن إذا خرجن في بعض حوائجهن ولو كن محرمات.. اعتقاداً منهن أن الستر واجب أمر به الشرع الحنيف.
• ولنستمع ثالثاً: إلى ما قاله الأئمة المجتهدون الثقات في قضية كشف وجه المرأة:
ذهب جمهور الأئمة المجتهدين الأعلام، وعلى رأسهم: الشافعي، وأحمد، ومالك... إلى أن وجه المرأة عورة، وأن ستره واجب، وأن كشفه حرام، وحجتهم في ذلك ما ثبت عن الصحابة والسلف في أن الآية: {يدنين عليهن من جلابيبهن}... تأمر بستر الوجه، ويؤكد ذلك فعل نساء الصحابة اللواتي كن يخرجن لبعض شؤونهن وهن ساترات الوجوه، وسادلات النقاب، وتفسير الصحابة والتابعين الآية: {يدنين عليهن من جلابيبهن} .. التي سبق شرحها وتفسيرها.
وقد جاء ذلك بالأدلة التفصيلية القاطعة.
أما فقهاء الحنفية ومن رأى رأيهم فقد ذهبوا إلى أن وجه المرأة ليس بعورة، وأن كشفه يجوز إذا لم يترتب على الكشف فتنة، وأما إذا ترتب فتنة فإن كشفه حرام سدّاً للذريعة، ودرءاً للمفسدة.
ولعل أظهر الأدلة التي احتجوا بها على دعم مذهبهم هي:
- حديث الفضل بن عباس الذي كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد مرَّ بجانبه نساء مُحْرِمات، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر..
والحديث صحيح رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة... ووجه استدلالهم: لو أن وجه المرأة عورة لما كشف النساء وجوههن، ولما نظر الفضل إليهن..
- وحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: "يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض (أي سن البلوغ) لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار عليه الصلاة والسلام إلى وجهه وكفيه.
ولكن جمهور الفقهاء أجابوا على الحديثين المذكورين بما يلي:
أولاً: أن حديث "الفضل بن عباس" ليس فيه دليل على جواز كشف الوجه للمرأة أمام الأجنبي، لأن النساء اللواتي نظر الفضل إليهن كن محرمات في الحج، ويجوز للمرأة المحرمة كشف وجهها ويديها للحديث الذي سبق ذكره: "لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين". ومفاد الحديث أنها في حال غير الإحرام تنتقب، وتلبس القفازين.
ثانياً: أن حديث أسماء الذي استدلوا به على جواز كشف الوجه مرسل، ومعنى الإرسال: انقطاع السند.
يقول "ابن كثير" في تفسيره ج 3 ص (283): [قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هو (أي حديث أسماء) مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنهما].
وكثير من أهل العلم يحكمون على الحديث المرسل بالضعف، وإذا كان الحديث ضعيفاً لم ينهض حجة على الاستدلال، ولم يعتبر بحال في استنباط الأحكام.
ويتضح مما قاله الأئمة المجتهدون أن وجه المرأة عورة، وأن ستره واجب، وأن كشفه حرام، حتى فقهاء الحنفية الذين ذهبوا إلى جواز الكشف فإنهم قيدوه بأمن الفتنة.
وهل أحد من الناس ينكر إشاعة الفساد والفتنة في المجتمع الذي نتخبط فيه، وفي المحيط الذي نتعايش معه؟!.. فإذا كان الأمر كذلك فعلى الأب الغيور أن يأمر أهله وبناته بأن يسدلن على وجوههن امتثالاً لأمر الله سبحانه، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام.. وتأسياً بنساء الصحابة الصينات الطاهرات، واتباعاً لما قرره الأئمة المجتهدون الثقات.. والمسلم – أيها المربي – عليه أن يحتاط لدينه وعرضه، وأن يأخذ دائماً بجانب الأتقى والأورع.. إن أراد أن يكون يوم القيامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أما ما ورد في النهي عن التبرج وإظهار محاسن المرأة فهو ما يلي:
- روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات[13] مميلات، كأسنمة[14] البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا".
- قال تعالى:
{وقَرْنَ في بيوتكن ولا تبرجْن تبرج الجاهلية الأولى...} الأحزاب: 33.
- وقال سبحانه: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جُناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خيرٌ لهن والله سميع عليم} النور: 59.
أما ما ثبت في النهي عن الاختلاط بين الجنسين فهو ما يلي:
قال الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم... وقل للمؤمنات يغضنن من أبصارهن ويحفظن فروجهن...} النور: 30.
فكيف نتصوَّر غض البصر لكل من الرجل والمرأة وهما مجتمعان في مكان واحد، فالآية إذن في مدلولها تنهى عن الاختلاط وتحرمه.
- وقال أيضاً في آية أخرى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} الأحزاب: 53.
- وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يخلُوَنَّ رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما".
- وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو (أي قريب الزوج)؟ قال: الحمو الموت".
- وجاء في الصحيحين أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخْلُوَنَّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم".
أما ما ورد في تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية فهو ما يلي:
- قال تعالى في سورة النور:
{قل للؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم...} النور: 30.
- وقال في سورة الإسراء:
{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} الإسراء: 36.
- وروى مسلم عن جرير رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفَجْأة فقال: "اصرف بصرك".
- وروى أبو داود والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم – وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه، فقلنا: يا رسول الله أليس هو أعمى: لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟!".
- وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس في الطرقات!" قالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بُدّ: نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال "غضّ البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
فمن المعلوم بداهة أن المجتمعات الإنسانية بأسرها، والأمم البشرية برمتها.. بشيبها وشبابها، ورجالها ونسائها، وحكامها ومحكوميها.. حينما تأخذ بهذه المبادئ الخالدة، وتسير على هذه المفاهيم القيمة، وتبتعد عن كل ما يؤذي الفضيلة والأخلاق من سفور، وتبرج، واختلاط، ونظر إلى المحرمات.. فلا شك أن هذه المجتمعات والأمم ترفل في رياض الطهر والفضيلة، وترتع في ظلال الأمن والاستقرار، وتصل إلى ذروة المجد والسعادة.. لأنها سارت في الطريق الذي خطه الله لها، وطبقت المنهج الذي فرضه الإسلام عليها، وصدق الله العظيم القائل:
{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام: 153.
وهذا ما تحقق لأمتنا الإسلامية في كل العصور التاريخية عبر القرون.. وما ذاك إلا بفضل التعاليم القرآنية التي أنزلها الله لتكون للعالمين بشيراً ونذيراً وللأجيال هدىً ونوراً..
وصدق الله العظيم القائل في محكم تنزيله:
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} الإسراء: 09.
تلكم – أيها الآباء والمربون – أهم القواعد التربوية، والمناهج العملية التي وضعها الإسلام لسلامة أخلاق الولد، وتنمية شخصيته المتميزة، وتعويده على الجدّية والرجولة ومكارم الأخلاق.. فما عليكم إلا أن تربوا أبناءكم عليها، وتأخذوا بتوجيهاتها وإرشاداتها.. حتى ينشؤوا على الفضائل الخُلقية، والمكارم الذاتية، والآداب الاجتماعية.. ويكونوا شامة في الناس!! .. وهل هناك مبادئ تربوية في تربية شخصية الولد وإعداده لمسؤوليات الحياة مثل هذه المبادئ التي وضعها الإسلام، وشرعها الرسول عليه الصلاة والسلام؟
ومن الذي يقول إنّ الإغراق في التنعم، والتقلب في الرفاهية لا يضر بشخصية الولد؟ ومن الذي يقول إنّ الاسترسال وراء الشهوات والملذات لا يضر بشخصية الولد؟
ومن الذي يقول إنّ الاستماع إلى الأغاني الخليعة، والموسيقى الراقصة المثيرة لا يضر بشخصية الولد؟
ومن الذي يقول إن ظاهرة السفور والتبرج والاختلاط لا تضر بشخصية الولد؟
ومن الذي يقول إنّ التخنث والتشبه بالنساء، والتميع بالكلام لا يضر بشخصية الولد؟
إن رجالات التربية، وعلماء النفس والأخلاق كادوا يكونون مجمعين على أن هذه الظواهر من أفتك الأوبئة في إضعاف الذاكرة، وتحطيم الشخصية، وتمييع الخلق، وقتل الرجولة، ونشر الأمراض، والقضاء على فضيلة الشرف والعفاف...
- يقول الدكتور "ألكس كارليل" في كتابه "الإنسان ذلك المجهول": (عندما تتحرك الغريزة الجنسية لدى الإنسان تفرز نوعاً من المادة التي تتسرب بالدم إلى دماغه وتخدّره، فلا يعود قادراً على التفكير الصافي).
- وذكر "جورج بالوشي" في كتابه "الثورة الجنسية" ما يلي: (وفي سنة 1962 صرح "كندي" بأن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها مائع منحلّ غارق في الشهوات لا يقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأن من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين، لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية).
- ونقلت جريدة الأحد اللبنانية في العدد ذي الرقم (650) عن المربية الاجتماعية "مرغريت سميث" حديثاً قالت فيه: (إن الطالبة في المدرسة والجامعة لا تفكر إلا بعواطفها والوسائل التي تتجاوب مع هذه العاطفة.. إن أكثر من ستين بالمئة من الطالبات سقطن في الامتحانات، وتعود أسباب الفشل أنهن يفكرن في الجنس أكثر من دروسهن وحتى مستقبلهن...).
فما على المسؤولين من آباء ومربين إلا أن يبعدوا أولادهم عن كل مظاهر التميع والانحلال، وأن يسعوا جهدهم لكي يغرسوا في نفوسهم أنبل معاني الكرامة والشخصية والخلق العظيم!!..
وأخيراً علينا ألاّ نغفل دور المراقبة الدقيقة والمسؤولية الكبيرة في تقويم أخلاق الولد، وإصلاح نفسه، وتنمية شخصيته...
ولو أردنا أن نفتش الأسباب التي تؤدي إلى انحلال الولد خُلقياً، وانحرافه سلوكياً لوجدناها متحققة في إغفال مراقبة الآباء لأبنائهم، والتخلّي عن تربيتهم وتوجيههم..
وإليكم بعض الأسباب في انحراف الولد الخلقي، وانحلاله السلوكي:
• فالأب الذي يرخي لأولاده العنان في أن يخالطوا من قرناء السوء، ورفقاء الشر ما شاءوا وما أرادوا دونما سؤال ولا رقيب.. فلا شك أن الأولاد سيتأثرون بمخالطتهم ويكتسبون الكثير من انحرافاتهم، وسوء أخلاقهم..
• والأب الذي يسمح لأولاده أن يشاهدوا الأفلام الغرامية التي توجه إلى الميوعة والانحلال، والأفلام البوليسية التي تحض على الانحراف والإجرام، وهي بتأثيرها تفسد الكبار فضلاً عن الصغار.. لا شك أن هذا الأب يقذف بأولاده – من حيث يشعر أو لا يشعر – إلى هاوية سحيقة ستؤدي بهم حتماً إلى هلاك محقق، ودمار محتوم.
• والأب الذي يترك المجال لأولاده ليروا من شاشة التلفزيون المناظر المثيرة، والتمثيليات الماجنة، والدعايات الفاجرة.. لا شك أن الأولاد سيتربون على الميوعة، ويدرجون على الانحلال، ويفقدون في نفوسهم أنبل معاني الرجولة والنخوة، والأدب الإسلامي الكريم.
• والأب الذي يسمح لأولاده بشراء المجلات الماجنة، ومطالعة القصص الغرامية، واقتناء الصور العارية.. لا شك أن الأولاد سيسيرون في طريق الفحشاء والمنكر، ويتلقنون دروس الصداقات المشبوهة، والارتباطات الجنسية الآثمة...
• والأب الذي يتساهل في حجاب أهله وبناته، ويتغاضى عن سفورهن وتبرجهن، ويتغافل عن مصاحبتهن ومخالطتهن، ويفسح لهن المجال في أن يخرجن بالأزياء المغرية، والعورات المكشوفة.. لا شك في أن هؤلاء البنات سيعتدن حياة الفجور والمنكر، ويقعن في حبائل الغواية والفسوق.. وربما آل الأمر في نهاية المطاف إلى انتهاك العرض، وتلويث الشرف، وهدر العفاف.. وعندئذ لا ينفع الندم ولا البكاء..
أتبكي على لُبنى وأنت قتلْتَها
لقد ذهبت لُبْنى فما أنت صانع؟
• والأب الذي لا يراقب أولاده وبناته وقت ذهابهم إلى المدرسة أو رجوعهم منها، فلا شك أن الأولاد يجدون من الإهمال ما يدفعهم إلى ارتياد الأماكن الموبوءة بحجة المدرسة.. وكم سمعنا عن بنات وقعن في حبائل الفاحشة والزنى، وأصبحن مدنسات السمعة والشرف، والأسرة لم تعلم بهذا إلا بعد الافتضاح، وظهور معالم الجريمة؟!..
وبعد الذي عرفتمون من أن الأخلاق ثمرة من ثمرات الإيمان الراسخ في تقويم اعوجاج أبناءكم.
وبعد الذي قرأتموه من الظواهر القبيحة التي يجب أن يبتعد عنها أفلاذ أكبادكم.
وبعد الذي سمعتموه من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق، وطيب المعاملة.
بعد كل هذا.. فليس أمامكم من سبيل إلا أن تعقدوا العزم وتشحذوا الهمة.. لتقوموا بواجبكم الأكمل تجاه من لهم عليكم حق التربية والتعليم والرعاية..
واعلموا أنكم إن قصرتم في حق أولادكم وتلامذتكم من الناحية الخلقية، فإن مَنْ لهم عليكم حق التربية سينشؤون – لا شك – على الميوعة والانحلال ويتربون على الفساد وسوء الخلق.. وعندئذ يصبحون خطراً على الأمن والاستقرار، ويكونون أداة هدم وتخريب لكيان المجتمع.. بل أبناء المجتمع يستجيرون من أعمالهم الإجرامية ومفاسدهم الخلقية والاجتماعية..
فراقبوا الله في أولادكم، وأدوا ما عليكم من واجب، وابذلوا ما استطعتم من جهد، واضطلعوا بما حُملتم من مسؤولية، فإن أديتم الأمانة على الوجه الصحيح فسوف ترون أولادكم رياحين في البيت لها عبيق وأريج، وبدوراً في المجتمع لها نور وضياء، وملائكة على الأرض يمشون هادين مطمئنين. {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} التوبة: 105.
[1] الندام: المنادمة والمجالسة على شرب الخمر.
[2] من كتاب "الإيمان والحياة" للأستاذ القرضاوي صفحة: 210 مع بعض التصرف.
[3] نخله: أي أعطاه.
[4] يعق عنه: أي يذبح عنه.
[5] هاك: أي أقبل وخذ شيئاً.
[6] من كتاب أخلاقنا الاجتماعية للسباعي رحمه الله ص 162.
[7] الحِرَّ: الفرج، والمراد به استحلال الزنا.
[8] الآنك: الرصاص المذاب.
[9] من نشرة صدرت باسم العلماء في "حكم الإسلام في اقتناء التلفزيون". ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتابنا "حكم الإسلام في وسائل الإعلام" فإنّ فيه ما يشفي الغليل إن شاء الله.
[10] كبة: هي الشَّعْر المكفوف بعضه على بعض، وهو الشعر المستعار الذي يضعه بعض الرجال والنساء على رؤوسهم، وهو ما يسمى "بالبروكة" اليوم.
[11] الخمار: هو ما يستر الرأس والنحر والعنق.
[12] النقاب: ستر الوجه، والقفازان: ستر اليدين بالكفوف.
[13] أي: مائلات في مشيتهن، ومميلات لقلوب الرجال بإثارتهن وخلاعتهن.
[14] المراد أنهن يصففن الشعور فوق الرأس حتى تبدو كأنها سنام الجمل.

يتبع