بلال محمود القصاص :
عقب إعلان حكومة الانقلاب في مصر إعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في الداخل والخارج، تذكرت –وأنا أضحك مما وصل إليه حال بلادي- ما كتبه الدكتور حسين مؤنس في كتابه (التاريخ والمؤرخون): (ومهما قيل في أعمال الثوار الذين يسمون أيضا بالإرهابيين فهي ناشئة عن الظلم، ولولا الطاغية لما كان رجال الحروب الصغيرة أو الإرهابيون -وهذه الأخيرة تسمية تعسفية ففي بعض الأحيان يكون المسمون بالإرهابيين هم أصحاب الحق أي هم النظام الشرعي الذي ينبغي أن يحكم- في حين أن السلطان القائم بالقوة يكون هو الإرهاب وأصحابه الذين تعترف بهم الدنيا أحيانا يكونون هم الإرهابيون والخارجون على القانون).
وكنت قد شرعت في كتابة بحث عن اغتيال محمود فهمي النقراشي باشا منذ فترة، وبالفعل جهزت مادتي العلمية وبدأت في الكتابة، ولأن موضوع اغتيال النقراشي لم يناقش بموضوعية وبرؤية بحثية تامة -في رأيي- حتى الآن، فقد أردت أن أعطي لنفسي الوقت حتى يخرج الموضوع في صيغة بحثية تضفي عليه رؤية جديدة لاغتيال النقراشي، إلا أن ما أقدمت عليه سلطات الانقلاب في مصر جعلني أعطي نبذة عن ما حدث منذ 65 عاما.
ففي الأربعاء 8 ديسمبر 1948م أعلن عبد الرحمن عمار بك وكيل الأمن العام حل جمعية الإخوان المسلمين وإبطال أنشطتها، وتم القبض على كثير من أعضاء الجماعة ومعظم قاداتها باستثناء الإمام البنا والأستاذ عبد العزيز كامل وبعض القيادات التي لم تصل إليها أيدي رجال البوليس.
وقبل الحل بفترة كانت الإشاعات قد كثرت بقرب صدور قرار عسكري بحل الجماعة وتكرر ذلك في الإذاعات العالمية خاصة إذاعة إسرائيل في الوقت الذي كان مجاهدوا الإخوان يؤدون واجبهم في قتال اليهود في فلسطين حيث لم تثنيهم هذه الإشاعات عن مواصلة جهادهم، ونظرا لكثرة الإشاعات نشرت جريدة الأساس –لسان حال الحزب السعدي الذي كان يرأس الحكومة آنذاك- تصريحا للنقراشي باشا ينفي فيه اعتزام الحكومة حل الجماعة، وكان سببًا في تخدير الإخوان وبث الطمأنينة في نفوسهم على عدم إقدام الحكومة على فعل هذا الأمر.
وفي مساء 8 ديسمبر 1948م جاء في نشرة الحادية عشرة أمر عسكري بحل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها وغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها وضبط أوراقها ووثائقها وسجلاتها ومطبوعاتها وأموالها وكافة الأشياء المملوكة لها، وكان قد سبقه في نوفمبر أمر عسكري بحل الجماعة في منطقة القنال وقام رجال البوليس بغلق جميع الشعب فيها والاستيلاء على جميع الأوراق الخاصة بالإخوان.
ومما جاء في بيان حل الجماعة: (ويحظر أعضاء مجلس إدارة الجمعية المذكورة وشُعبها ومديريها وأعضائها المنتمين إليها بأي صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية، وبوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لإحدى شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها أو جمع الإعانات أو الاشتراكات أو الشروع في أي شيء من ذلك ويعد من الاجتماعات المحظورة في تطبيق هذا الحكم اجتماع خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية المذكورة.....كما يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي السماح باستعمال أي مكان تابع له لعقد مثل هذه الاجتماعات أو تقديم أية مساعدة مادية أو أدبية أخرى).
وورد في نص المذكرة التفسيرية لحل الجماعة التي قدمها عبد الرحمن عمار بك وكيل وزارة الداخلية إلى النقراشي: (تألفت منذ سنوات جماعة اتخذت لنفسها اسم "جماعة الإخوان المسلمين" وأعلنت على الملأ أن لها أهدافًا دينية واجتماعية دون أن تحدد لها هدفًا سياسيًا معينًا ترمي إليه، وعلى هذا الأساس نشطت الجماعة وبثت دعايتها ولكن ما كادت تجد لها أنصارًا وتشعر بأنها اكتسبت شيئًا من رضاء بعض الناس عنها حتى أسفر القائمون على أمرها عن أغراضهم الحقيقية وهي أغراض سياسية ترمي إلى وصولهم إلى حكم وقلب النظم المقررة في البلاد). (وكأنك تقرأ بيان حكومة الانقلاب بالأمس)
وقد فرح المستعمرون وأذنابهم في مصر بخبر حل الإخوان المسلمين وكأن الجيوش العربية قد حققت النصر على اليهود في فلسطين، وكأن الجيش المصري استرد القدس من أيديهم.. فنشرت صحيفة الحوادث –التي تعبر عن حزب الوفد- تحت عنوان (لا حرية لأعداء الشعب): (نام رفعة النحاس باشا نومًا هادئًا عندما وصل إليه قرار الحل...يجب اعتبار يوم الحل عيدًا للديمقراطية يحتفل به كما تحتفل أوروبا بزوال كابوس الفاشية وحل الإخوان إجراء ديمقراطي ويجب على المصريين أن يهللوا طويلاً لهذا الإجراء... وقد أنقذ النقراشي البلاد من عار ملفوف في ثياب الفضيلة).
أما صحيفة مصر الفتاة فقالت: (لم تأخذ حركة الإخوان طابعًا معينًا ولكنها تشكلت وتطورت لتجاري كل فكر وكل ظن وكل أمل... وكنا نتوقع ذلك المصير بأسلوب أو بآخر ولم نتصور أبدًا أن النهاية ستجيء سريعًا).
وقالت أخبار اليوم إن قرار الحل أحدث صدى قويًا في لندن وساد الدوائر الرسمية شعور بالارتياح.
وأيدت الاجبيشيان جازيت -التي تصدرها شركة الإعلانات الشرقية- قرار الحل واتهمت الجماعة بالإرهاب وأنها تخلت عن أهدافها الإسلامية والاجتماعية وطلبت من الحكومة التحقيق لمعرفة المسئولين عن الانفجارات حتى لا يستمر الفاعلون في العمل السري تحت الأرض.
وتحت عنوان "المعارضون يصفقون ويبكون لحل الإخوان المسلمين" قالت مجلة آخر ساعة: (أبدى المعارضون ارتياحهم لهذا القرار سرًا فقد تخلصوا من جمعية كانت تعتبر من أقوى خصومهم. ولم تكن هذه الجمعية حزبًا فقط بل كانت أشبه بدولة لها جيش ومستشفيات ومدارس ومصانع وشركات).
وقالت صحيفة "شيكاغو ديلي تريبيون": (حُلت جماعة الإخوان المسلمين بأوامر شخصية من الملك عندما علم أنها تخطط للإطاحة به والاستيلاء على الحكم).
وفرح الكثيرين من الكتاب وعلى رأسهم عباس محمود العقاد والذي اتهم الإخوان بأنهم عملاء للأجانب في مقال تحت عنوان (جماعة الإخوان فتنة أجنبية) قائلا: (ما من أحد يحتاج إلى تعب ليعلم أن جماعة المجرمين فتنة أجنبية يزودها بالمال والسلاح أناس لا يريدون خيرًا بالإسلام والمسلمين).
وتوجه بعض رجال الأزهر إلى مكتب عبد الرحمن عمار بك يهنئون بقرار الحل قائلين: (هؤلاء إخوان الشياطين. والحمد لله على خلاص البلاد من شرهم، وأيد بعضهم قرار الحل في أحاديث قدمتها الإذاعة المصرية).
أما عبد الرحمن الرافعي بك وكان صديقا للنقراشي فقد عارض قرار الحل قائلا: (ولعمري إن النقراشي لم يكن موفقًا في إصدار هذا الأمر...وإذا كانت الحكومة قد أعجزها أن تأخذ المجرمين بإجرامهم، أو تتخذ الوسائل الوقائية لمنع ارتكاب الجرائم، فليس من حقها أن تعتمد في مكافحتهم على وسائل يحرمها الدستور والقانون....وإذا كانت الأحكام العرفية من شأنها تعطيل أحكام الدستور والقانون العام، فكان واجبًا على الحكومة أن تقصر هذا التعطيل على ما تقتضيه حالة الحرب في فلسطين، وما يستدعيه حفظ النظام، ولكن هذا الأمر العسكري – بحل الجماعة – قد خرج عن مدلول هذه الحكمة).
ونشرت اللجنة العليا للحزب الوطني برئاسة فتحي رضوان بيانًا احتجت فيه على حل الجماعة، ومما جاء في البيان: (القرار ثورة على الدستور، وخروج بسلطة الأحكام العرفية عن الغرض الذي أُعدت له.... إن النقراشي باشا الحاكم العسكري في فترة الحرب مع الصهيونية هو الذي يحل هيئة الإخوان المسلمين الذين حاربوا في فلسطين ضد الصهاينة كأشجع وأقوى ما يكون المحاربون..... ولا يملك الحاكم العسكري أن يحل حزبًا بأسره يختلف معه في الرأي وينافسه في الانتخابات القريبة ويصادر أمواله ويستولي على عقاراته ويوقف نشاطه، لأن الدستور وقانون العقوبات لا يسمحان بشيء من ذلك حتى في حق من تثبت عليهم قضايا ارتكاب جرائم الخيانة العظمى أو التطاول على مقام جلالة الملك وهي جرائم مهددة لكيان الدولة.....إن بريطانيا وصحفها أبدت ارتياحًا للحل مما يكشف جانبًا من جوانب الخطر في هذا الإجراء).
أما باقي الأحزاب المصرية فاستقبلت قرار الحل في صمت... لم تستنكره مع أن قرار الحل قد يلاحقها... ولم تؤيده لأنه يخلصها من أقوي أعدائها.
وفي 28 ديسمبر 1948م قام عبد المجيد أحمد حسن الطالب بالفرقة الثالثة بكلية الطب البيطري باغتيال النقراشي باشا في مبنى وزارة الداخلية، وذكر أثناء التحقيقات معه أنه أقدم على ذلك لأسباب ثلاث:
1ـ عدم قيام النقراشي بأي عمل إيجابي في موضوع السودان.
2ـ تهاون النقراشي في التعامل مع قضية فلسطين حتى ضاعت وأخذها اليهود.
3ـ اعتداؤه على الإسلام حيث شرد الطلبة من الكليات، وحل جماعة الإخوان المسلمين وما يتصل بها من شركات كانت الجماعة قد أقامتها.
وحدثت أعمال أخرى غير اغتيال النقراشي منها محاولة حرق أوراق قضية السيارة الجيب في محكمة استئناف القاهرة في 13 يناير 1949م، واغتيال الإمام البنا في 11 فبراير من نفس العام.
والآن وبعد مرور 65 عاما خرج علينا الانقلابيون –وكأن يوم الأربعاء له نصيب مما يفعلون- ليعلنوا ما أعلنه آباءهم من قبل وخرج أذنابهم من الإعلاميين والصحفيين يعلنون ما أعلنه أستاذتهم من قبل، كل ذلك تمهيدا لأعمال عنف من جانبهم -بدءوها بتفجير مبنى مديرية الدقهلية والذي تحججوا به في إعلانهم- منها اغتيال أو محاولة اغتيال لبعض أعوانهم حتى يؤكدوا أنهم على حق، حتى لو وصل الأمر إلى اغتيال السيسي –إن كان نبأ مقتل السيسي صحيحا فسيعلنون عنه عما قريب ولن ينتظروا طويلا- ومتوقع قيامهم باغتيال وزراء من حكومة الببلاوي إن لم يكن اغتيال الببلاوي وعدلي منصور وغيرهم، كل ذلك دفعا للتعامل بأقصى درجات العنف مع التظاهرات المؤيدة للشرعية ولعودة الرئيس محمد مرسي، نظرًا لفشلهم في إيقاف التظاهرات السلمية لأكثر من خمس شهور.
وماذا كان بعد كل هذا ذهب النقراشي والأحزاب والإنجليز والملك والكتاب والشامتين في حل الإخوان إلى حيث رجعة وظل الإخوان المسلمون يناضلون ويكافحون إلى اليوم. وسيذهب الببلاوي والسيسي وأعوانهم في الداخل والخارج إلى ما ذهب إليه من قبلهم وسيبقى الإخوان المسلمون يدافعون ويناضلون للنهوض بوطنهم وأمتهم لقيادة الإنسانية إلى الخير.
-------------
باحث تاريخي.