أ.د إبراهيم آبو محمد
 مفتى عام القارة الأسترالية


  في فترة الخمسينات من القرن الماضى سيطرت أنظمة الانقلابات الثورية الشمولية على أكثر بلاد الشرق الإسلامي  وحقق المد الماركسىي  امتدادا في نصف الكرة الأرضية ، وارتبطت به أنظمة ومجتمعات دارت في فلكه وكانت تدين له بالولاء الأيديولوجى، والمسلمون الذين هاجروا إلي الغرب كان بينهم وبين أنظمة بلادهم صدامات بسبب انتماءاتهم الدينية والأيديولوجية، وقد كان من مصلحة الغرب أن يستقبل هؤلاء المهاجرين ويؤويهم ليحقق بذلك أكثر من هدف في وقت واحد.
1.    فوجودهم في بلاده  يقدم للغرب  دعاية مجانية ويصوره كملاذ آمن للحريات ويكتسب بوجودهم  مصداقية في دفاعه عن حقوق الإنسان .
2.    كان هؤلاء  يشكلون طليعة المعارضة السياسية والقوى المضادة للانقلابات التى تتبنى النظم الاشتراكية في بلدانهم الأصلية، لذلك رأى الغرب فرصة الاستفادة منهم  كورقة ضغط سياسية في مواجهة الأنظمة التى تعاديه، وكذلك يمكن توظيف جودهم  في صراع الأيديولوجيات.
3.    وجود هؤلاء في مجتمع الغرب وخصوصا التيار الحركى منهم يجعل نشاطهم تحت سمعه وبصره ،ومن ثم يأمن شرهم ويعمل على ترويضهم بعكس ما إذا تولى هؤلاء السلطة في بلادهم وكانوا خارج حدود السيطرة فربمايشلكون تهديدا لمصالحه في المنطقة .
4.    كانت الغرب يرى أن خصائص هؤلاء وهوياتهم الإسلامية المتفردة والمتميزة ستذوب بعد جيل أو جيلين ومن ثم تنمحى وتتلاشى تلك الخصائص وتتم في هدوء عملية الدمج والذوبان.
•    هذه هى بعض الأهداف-فيما أراه ـ وراء ترحيب الغرب بالوجود الإسلامي في النصف الثانى من القرن الماضى، لكن الرياح  تأتى بما يشتهى السفن ، وأحيانا تأتى عكس ما يشتهى السفن ، فقد سقط القطب الشيوعى وتحلل الاتحاد السوفيتى ،وانحصر المد الماركسى الذى كانت أمريكا والغرب تخافه وتخشاه .
•    في الجانب الآخر انكمشت دول عدم الانحياز وانفرد قطب واحد بزمام العالم وسقطت شعارات " الإمبرالية و"قوى الرجعية والتخلف " "والاستعمار "وما إلى ذلك من الشعارات ،وقدمت أكثر الأنظمة التى كانت ثورية أوراق اعتمادها لتخدم في بلاط النظام العالمى الجديد بعدما أعلنت توبتها وتطهرها من رجس الماركسية والشيوعية، والتحقت بقاطرة الغرب نفسه وأضحت تأخذ عنه وتتلقى منه ، وتحولت العلاقة من العداء لتكون سمنا على عسل ، ومن ثم فلم يعد الوجود الإسلامى يستعمل كورقة للضغط  على تلك الأنظمة .
•    وبذلك سقطت المبررات الثلاثة: الأول والثانى والثالث من حسابات الغرب في التعامل مع الوجود الإسلامى في مجتمع المهجر.
•    ثم إن فكرة الذوبان والتلاشى للمهاجرين المسلمين بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة أجيال على الأكثر ، كانت خاطئة ، وكانت المفاجأة المذهلة أن أجيال الأخلاف نشأت أشد تمسكا بدينها وتماسكا في هوياتها، بل تحولت إلى جزء من النسيج الاجتماعى واللحمة الحضارية لمجتمعات الغرب وظهرت الخصوصيات أكثر فأكثر ، وأضحت ظاهرة التمايز واضحة جلية ، وبدلا من الذوبان والتلاشى كان التأثير المباشر في النسيج الاجتماعى الغربى، ومن ثم تم التداخل والمزج بين الدينى والاجتماعى، حيث تزوج أبناء المسلمين من نساء غربيات وهؤلاء وجدن في الدين الإسلامي وتقاليد الشرق والتماسك الأسري ضالتهن فأسلمن وحسن إسلامهن، وارتبطت حركة التغيير الوجدانى بحركة في تغيير المفاهيم والتصورات ، صاحبها وأعقبها تغيير في السلوك والممارسة، الأمر الذى أضحى من المألوف أن ترى المرأة الأوروبية ترتدى الحجاب وتعتز وتفاخر به كخيار لها وكحق من حقوقها المدنية بجانب كونه واجبا دينيا لا يجوز لأحد أن يمنعها عنه، والأمر كذلك بالنسبة للرجال حيث أصبح من المألوف أن ترى مسلما من أصل أوروبي هو الذى يجلس ليفاوض أو يحاور نيابة عن المسلمين في بعض المصالح الحكومية ، ومن ثم سقط المبرر الرابع وجاءت الرياح على عكس ما يشتهى السفن.
•    لكن اليمين المتطرف والذى تتنامى دعوته وتحتضنها بعض السياسات وبعض الأنظمة التى تستعمله ذراعا للضغط والسيطرة لم يُفَوِّتوا الفرصة طبعا، فقد اعتمدوا سياسة التخويف من الإسلام ، وسعوْا في مجتمعات الغرب كله للتأكيد على أن الوجود الإسلامي يتمدد بسرعة خطيرة ويشكل عبئا على رفاهية الغرب ولا يضيف إليه شيئا جديدا ، كما سعوا  بكل الوسائل لتأزيم المواقف وصناعة الأزمات بين المسلمين  وغيرهم وليسوقوا دليلا دامغا على أن المسلمين في الغرب شر كلهم، وأن وجودهم يشكل خطرا محتملا على المدي البعيد وحتي في القريب العاجل .
•    كل هذه العوامل دفعت بالغرب إلى إعادة النظر في استراتيجيته تجاه الوجود الإسلامي في مجتمع المهجر، ومن ثم كانت حالة التراجع في الحريات العامة وحالة الانتكاس في الحقوق المدنية، التى تمثلت وترجمت عنها ترسانة القوانين الجديدة التى تحد من حريات الناس وتحجم نشاطهم  وتخول لأجهزة الأمن المختلفة وقف ومصادرة أي نشاط لمواطنيها تحت دعوى محاربة التطرف وتجفيف منابعه .
•    ورغم قدرة بعض مراكز القرار في الغرب ومعهم اليمين المتطرف وبراعتهم في تغليف عدائهم بغشاء رقيق من الدبلوماسية وغطاء هش من حرية التعبير والإبداع والبحث العلمي، لكن هذا الغطاء لم يكن كافيًا لتغطية حالة العداء التي بدت وكأنها ظاهرة في كثير من الكتابات والتعليقات وحتى القرارات، ولم تكن قوافل الميديا في الساحة وحدها، وإنما كان خلفها من يقدم لها الدعم والمساندة والتأييد، كما كان يمدها بالدعم اللوجستي في مجال المعلومات كتيبة من الأكاديميين تقربهم مراكز القرار وتمولهم جهات استخباراتية وتمكنهم من نشر آرائهم التي تساعد على تبرير العدوان وتأجيج نيران الصراع والكراهية، وحاول اليمين المتطرف التركيز على أن  التكوين الثقافي للجنس الأبيض يعتمد على نظرية نجابة الجنس ونقاء العرق وتقسيم البشر، وقد نجح إلي حد بعيد في إشاعة هذه الرؤية حتى نضحت في كتاباتهم رغم حديث القانون عن المساواة والحريات وحقوق الإنسان وبدرجة فاقت حدود الشعارات المرفوعة في الغرب ذاته ، وبالطبع إنسان الشرق في تلك الرؤية يختلف عن إنسان الغرب، وإنسان الجنوب يختلف عن إنسان الشمال ،حتى تجرأ بعضهم وأحيا في طرحه رؤية عنصرية قديمة، وحاول أن يروج لها من باب هندسة الرأي العام وتهيئته تمهيدًا للقبول بفكرة الاستعمار بناءً على نجابة الجنس ونقاء العرق وتقسيم الناس إلى سادة يجب أن يسيطروا ويسودوا، وإلى عبيد عليهم أن يخلصوا في خدمة السادة ليلاً ونهارًا، والويل لهم إن تمردوا أو طالبوا بحقوق آدمية.
•  نظرة الاستعلاء والفوقية هذه ليست جديدة، وحتى ما طرحه صموئيل هنتنتجنتون في كتابه صراع الحضارات لم يكن جديدا ، وإنما كان نسخة معدلة مما طرحه من قبل  الصحفي الأمريكي لوثروب ستودارد فقد ذكر في  كتابه الصادر في سنة1921: بعنوان"المد الصاعد للون ضد السيادة البيضاء على العالم"
"The Rising: Tide of Color against White supremacy" 
حيث يقرر الصحفي الأمريكي لوثروب ستودارد" lothrop Stoddard “
 صلاحية الجنس الأبيض للسيادة على العالم فيقول:
 "من ظلال ما قبل التاريخ برزت العناصر البيضاء إلى المقدمة، وأثبتت بطرق لا تحصى صلاحيتها للهيمنة على النوع البشري، لقد شكلوا بالتدرج حضارة مشتركة، ثم حين أتيحت لهم فرصتهم الفريدة للهيمنة على المحيطات قبل أربعة قرون انتشروا في كل أنحاء الأرض فملأوا أماكنها الخالية بذريتهم المتفوقة، وضمنوا لأنفسهم التفوق في العدد والسيادة... وأخيرًا توحد الكوكب تحت هيمنة عرق واحد بحضارة مشتركة . هكذا !!
•      ولم يكن ذلك الصحفي والتيار الذي ينتمي إليه في ساحة الهجوم على الإسلام وحده، وإنما رافقه آخرون أكاديميون من ذوى الشهرة والصيت ذاعت كتاباتهم في طول الأرض وعرضها تحاول النيل من الإسلام ونبيه،  وكان في مقدمة هؤلاء المستشرق المعروف هاملتون جيب الذى كان يعمل في الولايات المتحدة الأمريكية مديراً لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد والذي حاول أن ينفي عن النبي صفة الرسالة والنبوة ولم ير فيه إلا أنه مجرد مصلح اجتماعي عكس ضرورات البيئة العربية في مكة، وأنه صلى الله عليه وسلم صنعته بيئته الخاصة بمركزها الثقافي والديني والتجاري، وبحكم موقعها من العالم وصلتها بأرقى شعوبه.، ثم جاء تلميذه النجيب برنارد لويس ليكمل المسيرة غير الميمونة وغير المأمونة، وليدلي بدلوه في تطوير وأداء الدور المطلوب.
•    فإذا أضيف إلى ذلك رد الفعل على الحملة الشرسة التى تولت كبرها مصانع  الكذب الإعلامي ودعايات أمبراطورية هوليود  بعد أحداث 11 سبتمبر والتكثيف الشديد على اعتماد التشويه والكذب ، هذا الأمر المبالغ فيه جدا دفع الكثير من الناس إلى محاولة معرفة شئ عن هذا المارد المرعب والذى جاء ليحطم الحضارة ويطفئ أنوار الحياة فنفدت كل الكتب التى تتحدث عن الإسلام كما نفدت جميع المصاحف من المراكز والمؤسسات الإسلامية ، وبالإضافة إلى ما يتمتع به المواطن الأوروبي من الحرية ومع البحث والتحرى ظهرت الحقائق ،كل ذلك جعل الإسلام هو الخيار الأول لبعضهم  بعدما اتضحت الصورة واكتشف الناس حجم المغالطات والتدليس والغش وصدقت      حكمة الشاعر التى تقول:  
      وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت  ….  أتاح لها لسان حسود                           
•    لسان الحسود هنا قدم للإسلام دعاية لا تستطيع الدول الإسلامية مجتمعة أن تقوم بها وكان هذا الأمر من تدبير الله وحده .
•    ثم إن أحداث 11 سبتمبر أحدثت تطورا نوعيا في وعى  المسلمين بحركة الصراعات وطبيعتها ومسارها ،هذا التطور النوعى أكسب المسلمين خبرة في التعامل مع الأزمات وكيفية مواجهتا والقدرة على امتصاصها، كما حقق لهم حضورا ملحوظا وقبولا يحسب على أنه إنجاز ضخم في بناء جسور حيوية ومحترمة للتفاهم وتأكيد معنى التعددية الثقافية  والحضارية وحتى الدينية وتفاعلهم معها، ومن ثم  فقد بدأت قطاعات كبيرة من مجتمعات الغرب نتيجة الاحتكاك بالمسلمين في الداخل تتفهم قلق المسلمين وهمومهم وتشعر أن وجودهم إضافة حضارية وثقافية وليس عبئا ومن ثم بدأت تقف بجوار قضاياهم،  لكن هذا الأمر مقلق طبعا لبعض الدوائر التى تقتات على الأزمات والكراهية وتسعى لضرب الجميع ببعضهم، وبالمناسبة يقال إن أحداث فرنسا أعلنت عنها وسائل إعلام إسرائيلية بعد وقوعها بثلاث دقائق ، أي قبل أن تعلن عنها السلطات الفرنسية، كما أعلنت صحيفة تابعة لهم أسماء الجناة وحددت ديانتهم وجنسياتهم بعد أقل من 15 دقيقة  !!  فهل جاءت أحداث فرنسا نتيجة وثمرة لهذا التخطيط....؟  حتى الآن لست متأكدا من إجابة هذا السؤال " بلا " أو "بنعم"  .
 لكنى أحسب أن الوجود الإسلامي في مجتمع الغرب بدأ الدخول في مرحلة جديدة من التحديات خططت لها أعلى الدوائر سيادية وأكثرها حساسية وعما قريب ستراوده عن نفسه  بين الرفـض والاحـتواء .
فهل يمكن أن تنتصر النفايات والمؤامرات على الخلق العظيم ؟ هنا أقول بالقطع: " لا" ومبدأ الإنصاف الذى ربانا عليه ديننا الحنيف ونبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم والذى جعلوه هدفا لنفاياتهم ـ  وهيهات  - يجعلنى أقول بإصرار : "ليسوا سواء"  وإذا كنا كلنا محمدا  …. فليسوا كلهم شارلى .