بقلم - شرين عرفة :

لم تعد فقط مشكلتنا مع الإحتلال العسكري الديكتاتوري لمصر في إفقار البلاد وتهميشها وتجهيلها وجعلها في ذيل الأمم،لا نملك أي شيء..
لا حضارة ولا تقدم ولا تعليم ، ولم نفلح لا في زراعه ولا صناعه ولا تجارة ولا سياحه...ولا شئ على الإطلاق ...
مجرد ظل ثقيل على كوكب الأرض..ونحتل بلا فخر المراتب الأخيرة في كافة المجالات، سوى بالطبع في الحوادث و الفساد ،دولة عالة على الأمم ،تستورد كل شئ وأي شئ..
بدء من القمح وحليب الاطفال إلى الألعاب  والحلويات
ومن الملابس وأدوات التجميل إلى الأمصال والعلاجات
ومن دبابيس الشعر إلى السيارات و الطائرات

لم تبرع مصر منذ العهد الناصري المشئوم وإلى وقتنا الحالي سوى في صناعتين اثنتين لا غير هما : صناعة الكذب وصناعة الخوف.

الخوف من الحاكم الطاغية ومن قمعه وأسواط جلاديه،

والخوف على المستقبل الضبابي الغير مأمون على الإطلاق، فلا معايير ولا قوانين تحكم الحياة، فليس معنى تفوقك العلمي أن تنال مكانة مرموقة، ولا الفشل سيعيقك من أن تعلو بحذائك فوق الجباه.

و الصناعة الأخرى التي برعنا فيها حد الإعجاز، هي صناعة الكذب، نكذب على أنفسنا لتسكين آلامنا، ونكذب على الآخرين لإخفاء قبحنا،
وكلما ازداد الحاضر بؤسا إستدعينا حضارة انتهت منذ اربعة  آلاف سنة، ولم يبق منها سوى الأطلال ، نتمسح فيها ونبكي عليها، ونخدر بها وعينا المهان، ونتحدث عن ريادة لم يعد لها وجود، ونمن بأفضال زائفة على الإخوة والجيران.

منذ حديث الإعلام في الحقبة الناصرية عن صناعة الجيش لمركبة فضاء ثم طائرات إسرائيل التي أسقطناها وإجتياحنا تل ابيب إبان نكسة يونيو حزيران ،

إلى خطف قائد الأسطول السادس الأمريكي والسيسي "اللي منيم أمريكا من المغرب"، هي ذاتها الأكاذيب الوضيعه والترهات الفارغه، لم يتغير شئ مطلقا،
مع ان الزمن غير الزمن، والأرض غير الأرض،و العالم كله اصبح قرية صغيرة ،وتلك الأكاذيب السخيفه ما أن تفور من مراحيض الإعلام حتى تتحول لفضيحة كبرى ،ومادة للتندر في صحف العالم والفضائيات،
كما ان البشر ليسوا كما كانوا من ذي قبل، وتفتح جيل جديد سما بوعيه، وإخترق جدار الخوف، حينما خرج متظاهرا في يناير بصدره الأعزل امام الدبابات
فكيف يمكن بعد ثورة أحيت الضمائر وأيقظت الوعي،أن نقنع الناس ثانية بأن يقبلوا بالأغلال،

وأصبح الرهان ليس على تخدير الوعي ، بل سحقه سحقا، وليس على تسكين الضمير، بل قتله ووأده،

ولأن القادم قاس أيما قسوة، فأضيفت مهمة ذبح المشاعر وتبلد الإحساس،
فلا يغلف القلوب سوى جدر من حقد وضغينة وكراهية.

وأحتاج الأمر لمجهود خارق وتكثيف مذهل للأكاذيب ، ومن خلال 36 فضائية تعمل ليل نهار ،وعشرات الصحف المطبوعة والإلكترونية و الصفحات و المواقع الإخبارية والترفيهية، يبثون سمومهم أربع وعشرين ساعة على مدار اليوم، مع عمل دؤوب على الأرض ،من إثارة للفزع لدى الناس، والخوف من الفوضى والمستقبل المظلم، إلى اللعب على وتر النعرات الطائفية وتضخيم الإختلافات الفكرية والأيدلوجية،

فما تم عمله في ستين عاما تم إعادة تكثيفه في ثلاث سنوات عجاف، وزاد على الجرعات المركزة من الكذب والخوف والتضليل ، جرعات زائدة من الكراهية والحقد والضغينة ،وهو ما يسميه الأطباء (Overdose)

لم تسحق فقط الوعي لدى الإنسان المصري، ولم تخدش قلبه و ضميره، بل قتلت الجزء البشري لديه، فلم يعد بشرا ولا حيوان ،كائن عجيب ،له شكل البشر وصفات الحيوانات ،فهو لا يرى الحقيقة وإذا رآها لا يدركها وإذا أدركها لا تؤثر فيه، فقد مات أساسا الحس البشري لديه، كما قتلت مشاعره الإنسانية،
يصم أذنه ويغلق عينيه عما يراه من نافذته ويصدق ما يتلى عليه في مراحيض الإعلام.

هو لا يأسى لمقتول امامه يخرج مخه من رأسه، ولا يؤثر فيه مشهد حرق جثث أو تجريفها بجرافات، هو لا يغار ،ويسعد حين يرى زوجته أو أمه تتراقص في نشوة محمومة في عرض الطريق وأمام اللجان،

إنها الكائنات التي نزلت في الثلاثين من يونيو تحمل ضباط الشرطة فوق أكتافها، وتندد بالحرية التي حصلوا عليها، مؤكدين على ان الشعب المصري لا يحتاج إلى رئيس ديمقراطي يتسامح مع مذيع حقير يتطاول عليه آناء الليل وأطراف النهار،
بل إلى رئيس عسكري يضربهم بالحذاء و يحكم البلاد بالحديد والنار.

يزداد الواقع بؤسا ،ويستفحل القبح بشاعة، ويبدو القاع بلا نهاية؛ فتزداد معدل الأكاذيب :
وما رأته عينيك لم تره؛ وما تعيش فيه، ليس هو الواقع،

وخراب البلاد ..لا يسأل عنه السيسي ،لقد ورث تركة ثقيلة عن سلفه مبارك "أبيه الشرعي" و عمرها ثلاثون عام،

إنما مبارك برئ بحكم قضاء شامخ ..شامخ .. لا غبار عليه!!!!، ولم يفسد مصر، بل كنا ننعم في عصره بالرخاء والأمان.

الآليات التي نزلت في الشوارع أمامك ورأيت النيران تندفع من فوهات بنادقها..لم تقتل المتظاهرين، والمدرعات التي شاهدتها تدهسهم .. لم تدهسهم ،ومن رأيتهم بأم عينك يلبسون لباس الشرطة.. ليسوا بشرطة، ومن كانوا بلباس الجيش في احداث ماسبيرو ومجلس الوزراء لم يكونوا من الجيش، ومن قتلوا أمامك وتفجرت أدمغتهم لم يموتوا،

"وأنت مش أنت في حالة الإنقلاب"

تزداد الفجوة إتساعا ،ويتباعد النقيضان، وتختفي المنطقة الوسطى ،فما بين بشر أحرار ينزلون الشوارع يوميا لا يهابون الموت بل يتمنوه،يعيشون من أجل وطنهم، ويدركون قيمة الحرية ومعنى وجودهم في الحياة،

وبين عبيد مسوخ.. مشوهة، لا يعقلون ولا يهتدون ولا يشعرون....إنقسمت بالفعل مصر  إلى شعبين.

بعد أن مر قسم من أهلها بعملية التحول الكبير

إنه التحول بفعل التضليل الإعلامي المخيف من بشر إلى أنعام ...
وانطبق عليهم قوله تعالى :
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)سورة الأعراف.

ثورتنا لم تكتمل بعد ، وسننتصر بإذن الله ونطهر بلادنا ونحررها من قبضة الفاسدين والمجرمين والطغاة،ليس فقط من اجل حياتنا ومستقبل ابنائنا،
ولكن أيضا من أجل تغيير حياة هؤلاء المغفلين والتعساء.

[email protected]