كتب - د. محمود مسعود :
سبق أن تم انقلاب في مصر على أول رئيس وطنى وهو محمد نجيب ونجح، وسبق أن سجن لسنوات طويلة وقتل في سبيل ذاك الانقلاب أكثر من ثلاثين ألف ونجح، وسبق أن اعترف العالم بقائده وبات زعيما شعبيا فلماذا؟ لأن الغرب حينها عرف كيف يقدم رجاله كوطنيين ويقبل منهم اهانات حقيقة وليست تمثيلية كتفتيش جون كيرى هذا من جانب، ومن جان أهم هو أن المصريين كانوا يحتاجون في هذا الوقت لزعيم يدغدغ مشاعرهم ويطنبون للكذب حبا في الكذب، أي والله حبا في الكذب، لأن بطونهم كانت مملوءة مقارنة بجيرانهم في الشرق والغرب الذين كانوا حفاة عراة، فظنوا أن بطلهم يسير بهم إلى زيادة في الرغد، فضيع ذهبهم الأصفر في اليمن، وذهبهم الأخضر في السودان، فانفصلت مصر عن شقها الجنوبي ومكملها الاستراتيجي وضحك علينا الغرب الروسي بسد أوقف الطموحات استسهالا وجريا وراء الراحة والكسل والدعة، فبدلا من ركوب الوعر وبناء الصحراء واستصلاحها جئنا بحجارتها وزلطها ورملها نسد أبواب الخير، فضاعت الدلتا وضاق الوادي، ونحن نطرب مع أم كلثم وعبدالوهاب، بل من شدة حبنا للكذب أسمينا الهزيمة الرهيبة التي طاحت بغزة وسينا نكسة وغدت كلمات البطل ترن في الآذان كأنها تلاوة جديدة لوحى السماء!
كل ذلك تم ولا يمكن أن يتم اليوم، ليس لأن معظم المصرين - لا سمح الله- وعوا مخاطر الغرب !!!! بل لأن الغرب لم يع هذه المرة الطريق جيدا، فبدلا من تقديم رجاله في صورة مدنية ضح بهم لمجرد روسبهم في الاستحقاقات الانتخابية الخمس المتتالية بعد الثورة، فغادر البرادعي البلاد، وداس الغرب في الطين على بقية أحلافه الليبراليين حيث اضطرهم لأن يعملوا خلاف ادعائهم لأكثر من قرن ونصف - تحديدا حينما دشن الأخوان تقلا الأهرام- وهو (أن الديمقراطية أسس التقدم وعرين النهضة!)، وخرجت أضغان اليساريين بعد رسوبهم في أول استحقاق انتخابي بعيدا عن صحته وخطأه في مارس 2011 ولم يصبروا على نهجهم الماركسي ودعوتهم العريضة (حماية الطبقة الكادحة) فظهرت عوراتهم ورموا بالبيض شاشات التلفاز يأسا وحنقا وبدلا من أن يمد الغرب يد العون لأحلافهم لينخروا في بقية جسد الأمة بهدوء وتمهل جاءوا بعبد مفتاح كانوا يدخرونه للاضطرار.
لذا كان الانقلاب اضطرارا وليس تكتيكا استراتيجيا، لأنه لو كان تكتيكا لجئي بعده مباشرة برجال يحملون رسم الدين ويحاربون جوهره امتصاصا لغضب الجماهير، حتى يغطوا على انقلابهم على المشروع الإسلامي الحقيقي بمشروع إسلامي مخابراتي شكلي في أول الأمر، ثم بعد سكون الجماهير يأتوا براجلهم بطريقة ديمقراطية شكلية أيضا فكان يمكنهم مثلا : تعين نادر بكار رئيسا للوزراء والبرادعي وحمدين نوابا له سنة على الأقل، ثم يتم اغتيال نادر من المتطرفين الإخوان وهو يلقي خطابا كخطاب الرمل سابقا! ثم يعين البرادعي رئيسا بانتخابات حرة مزورة كتلك التي كان الغرب يصنعها في مطبخه ثم يقبلها على مضض في الإعلام من مبارك، وثم يعين صباحي نائبا مسلما ونجيب ساويرس نائبا مسيحيا.
فلماذا لم يفعل الغرب ذلك؟ هاك هي الأسباب التي هي عينها سر فشل الانقلاب بعد فضل الله تعالى وتدبيره.
مباغتة الثورة المصرية للغرب ومخابراته جعلته لا يدير الخطة جيدا، فكان الغرب يعد لشرق أوسط جديد بعد طحن العراق وخلق صراع سياسي حربي معد سلفا بين التركيبات الإثنية والدينية المحتقنة أصلا بسب موجات الغلاء واستبداد الحكام تفحش ثراء رجال الأعمال، لكنه كان يريدها حربا كحرب العراق وإيران يأكل فيه أموال الخليج، فتكون هناك حرب بين السنة والشيعة في الخليج وبين العرب والتركمان في العراق وسوريا، وبين العرب السنة والفرس في إيران وبين الترك والكرد في تركيا والنصاري والمسلمين في مصر وهكذا ليدفع بهم جميعا إلى الفوضى الخلاقة التي بدأ يتحدث عنها، لكن الثورة المصرية فاجأت الغرب ومخابراته فلم يحسن التفكير ولم تترك له الفرصة في اختيارات رجاله ومواقفه، فخوف الغرب من أن تقود مصر وتركيا السنة وتجبر الشيعة على التقية كما عاشوا ألف سنة سابقة ومن ثم يتصالح الجميع وتعود العراق سنية جعله يخطأ في الحسابات ويستعجل في النتائج.
وجود تركيا تقدم مشروعا جاهزا يمكن استنساخه وتقاربها مع الربيع العربي قد يقويها ويقوى العرب فتعود الجامعة الإسلامية، بل قد تدفع بوجود الخلافة من جديد، أرعب الغرب ولم يمهله في التفكير الطويل.
وجود تريليونات الخليجيين في جيوب بعض حكام الغرب وحسابات بعض مستشاريه الجشعين، مما جعل بعض هؤلاء العرب يدفعون رجالهم من الغرب ليسروا وفق هوى العرب هؤلاء وليس وفق خطة غربية مدروسة بعنايةـ وذلك لخوف هؤلاء العرب من آثار ثورات الربيع العربي التي ستظهر يقينا عورتهم ويفشى سوء عملهم مع الإسلام والمسلمين منذ عقود.
وجود جماعة منظمة في كل البلاد العربية يمكنها استنزاف المشروع الغربي الاستعماري وتغير وجهة سفينته بهدوء بسحب البساط بنفس آليات الغرب (المنهج- التنظيم- الانتخابات) وهذه ألية الغرب في السيطرة على الآخر طالما تغنى بأنها سر حضارته و مفتاح سعادته.
جيل النصر الذي عرف حب الموت في سبيل قضيته وطنه دينا وهذا أخطر ما جعل الغرب يعجل بالانقلاب –في رأي- لأن تفشي هذا الجيل في الأمة يعنى حتما نهاية مشروع الغرب الاستعماري، فقد صنع رجال الغرب كل ما يمكن صنعه في أن يتغرب هذا الشباب وتغرب فعلا معظمهم شكلا فخدع الغرب بتغربه، فلبس الشباب البرنيطة والجينز وأطال الشعر فقبل الغرب الثورة المصرية في أولها على أنها روح غربية سيقودها شباب (الجمعية الوطنية للتغير)، حسب تقديرات مخابراته الأولى! لكن هذا الشباب حمل مشروعا ولم يكن مجرد ظل للبرادعي وجمعيته، وإلا فأين شباب الجمعية للتغير الذين بلغوا أكثر من مائة ألف قبل الثورة وكنت واحدا منهم، هل هم من أتباع البرادعي اليوم ؟! لو كان شباب الجمعية الوطنية للتغير غربيا كما فهمت مخابرات الغرب وابتلعت الطعم ما احتاج الغرب لعبد مقفال أو مفتاح يقوم بانقلاب، لأن هذا الشباب ظهر في الجمعية للتغير أنه غربيا في مظهره إسلاميا في مخبره أو بلغة القدماء (مخ الإسلام في لحاء الغرب) ولم يبق للبرادعي إلا حفنة مترددة دخل بعضها حزبه وحزب أحلافه.
أخيرا رجالات الغرب هم سبب نهاية الانقلاب؛ أقصد مفكري الغرب بصفة خاصة؛ الذين دشنوا في السنوات التي تلت سقوط برلين معلومات خادعة بأن من يمتلك الإعلام يمتلك التغير ولما كان الغرب يمتلك يقينا كل وسائل الإعلام في مصر تحديدا ظن أنه قد ضمن حماية أي انقلاب أو أي حكم يروق له أو يريد الترويج له، لكنه لم يتذكر أن الكذب لو قبله بعض الناس فلن يقله الكل ولو قبله معظم الناس سينكشف حتما في مجالات العمل ويصبح مملا ثمجا مكروها حتى ممن صدقه في أول أمره، خاصة وأن أبناء التيار الإسلامي يملكون الوعي بالإعلام ومخاطره وإن لم يملكوا كل مفاتحه ومداخله.
لكل ما سبق وقع الغرب في شرك غروره وأتي بمغرور لا يحسن قراءة كلمة ولا يحسن عد جملة، فاشل في صغره عر* في كبره ، جمع بين النتانة كما ذكر عن نفسه وبين الجهالة كما فضحت تسريباته وخطاباته أمره، فأضحي تأمين المنقلب هو عمل الانقلاب وليس إعادة بناء دولة الانقلاب التي عشش فيها الفساد حتى أصبح القاضي عنوانا للظلم والجور والمعلم عنوانا للجهل والسطحية والشيخ عنوانا للتدليس والغش يبيع دينه بدنيا غيره. فكيف يستمر الانقلاب بلا هوية وبلا مشروع؛ لذا أبشروا بسقوط الساقط وبانقلاب الانقلاب في القريب العاجل يقينا.