حامد شاكر :
مَن عاصَر أصحابَ العِزب التقليدية التاريخية يعرف كامل المعرفة فارق السماء والأرض بين من يمتلك شيئا بجهده ومن يمتلك جزءا من شيء بالميراث. والمالك الصاحب يحرص أكبر الحرص وأشمله على أن يضع ما ملكت يمينه فوق رأسه وفي مكنون قلبه؛ كنزا ثمينا يظل يحتضنه ما بقي فيه رمقٌ من حياة. وكان مالكُ العزبة لذلك ينتقي أفضل العناصر، أمانة وإخلاصا وإتقانا، لمعاونته في رعايتها أحسن وأفضل وأجمل الرعاية. ويمكن، في نطاق تعميم القاعدة القول بأن صاحبَ "العزبة" يصون ويُثري، والوارث في "العزبة" يُبدد ويُهدِر؛ وأما مُغتصب "العزبة" فإنه يُدمِّر ويقتل ويعيث في الأرض فسادا وإفسادا.
ولأن أرض مصر وقعت في أيدي ورثةٍ تارة وفي أيدي مغتصبين تارة أخرى فإنها تعيش لعقود تحت وطأة ثقافةٍ عامة تُظهر أشرس أنواع العداء لفكرة النظافة؛ فلا تُستثنى من هذا بقعة واحدة يقطنها موسرون غارقون في الثراء أو يقطنها مُعدمون غارقون في العِوَز. ويبقى الفارق فقط في الدرجة وليس في النوعية، فالفريقان في العموم (وليس في الخصوص) ملوِّثون قهريون مُزمنون: بَصريّا وسمْعيا ولفظيا. ووجود الأمة في هذه الحالة من الخصومة الكاملة مع نظافة الوطن يعني أنها في خصومة كاملة مع الوطن، ويكون الحديث عن شيء اسمه "المصالحة الوطنية" ضربا من العبث؛ لأن على الأمة أن تتصالح أولا مع وطنها، قبل نفسها.
ومع ذلك لا يكُف أبناء الأمة الخصوم عن التغني "بحب الوطن"؛ فأيَّ حُب هذا الذي أحال أنظف وأجمل بلد على ظهر الأرض (بشهادة المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت)، بأكمله، إلى بحْر نفاياتٍ من كل أنواع النجاساتِ والخبائث (بشهادة التاريخ المعاصر).
ثم يُسجل التراث لاحقا مقولة رددتها على مسامع الدنيا كلها مُبدعة شهيرة (هي من ظهر مُبدِع كبير ورَحِم مُبدِعةٍ كبيرة) في فلسفةِ هذا المنحى والمسلك بمقولةٍ مجلجلة مُزلزلة وصلت أصداؤها أركانَ الكون. وكان نصها كالآتي : "البلدْ بلدْنا ونحن أحرارُ فيها وأحرارٌ فيما نفعل بها، وانشالله نحرقها بحريقة." وهذا بالطبع لأنها لم تكن "عِزبتها" وعزبة مع من يروْن رؤيتها؛ وإنما هم فقط ورثوها "جاهزة" بغير جُهد عن الأسلاف، قبل السنين العجاف.
ومن لا يتصارع على ميراثٍ يتصارع على "الوَهْم"، وهْمُ فلاح أمةٍ من خلال سُلطة؛ بينما يستحيل فلاحٌ في غيبة النظافة. ومَن يعلن حُبَّ وطنه واحترامه يعطي الدليل العملي من واقع سلوكه داخل "وطنه الحبيب" وسلوكه خارجَه. فعندما يعمل مثلا أجيرا في بلد أو آخر (أو حتى يَحُل ضيفا عليه) فهو حينئذ (راضيا أو مُرغما) لا يُلقي بورقةٍ في الطريق أو يُدخن في مكان عام، مُغلق (أو مفتوح كما تقضي به قوانين أمم أكثر اعتزازا بهويَّتها واحتراما لأصلها)؛ ثم يعود إلى وطنه "الحبيب" لكي يرتكب كافة الموبقات البيئية بحقة، ويستبيحه عِرضه.
ويمكن بناء مؤشر الأمل في الفلاح، مثلا، على نمط سلوك المدخنين. ولسنا نجد في مصر فقط مدخنين (بَهوات) يحلو لهم التدخين حتى داخل المصاعد (ولا يروق لهم إلقاء أعقاب سجائرهم إلا في أحواض الزهور) غير مكتفين مثلا بأماكن العمل (المغلقة) والمطاعم، وإنما يمتد عُدوانهم إلى أروقة المحاكم وغيرها من جهات إعمال القانون؛ بل وأروقة جهات تشريع وسَنّ القوانين نفسها. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى قانون مصريّ صميم (لكن بغير تصميم) يُعرَف تحت مسمى "القانون رقم 4 لسنة 1994 في حماية البيئة"، والمادة رقم 46 منه تحظر التدخين كلية بالأماكن العامة. ووفق لائحته التنفيذية يُعاقِب هذا القانون رئيسَ الجهة التي تُرتَكب بها المخالفة (سواء كانت مصلحة حكومية أو مؤسسة أهلية) بغرامةٍ مقدارها عشرون ألف جنيه؛ وبعقوبةٍ أشد من ذلك حال تكرار المخالفة.
وسيجد كثيرون أن المخالفات الدائمة والصارخة والمستمرة بغير توقف تشيع أيضا داخل الكيانات المؤسسية المرتبطة بذلك التشريع؛ سواء تلك التي أعدته (بخبرائها ومستشاريها) أو تلك التي أقرته وأصدرته، أو تلك التي أسْنِدَ إليها تنفيذه. وهناك من يتخذون هذه الظاهرة كمادة فكاهة، فيُعلنون "إنما جُعِلت القوانين فقط من أجل أن تُكسر." وهذا بالطبع لن يكون منهج أمة محترمة في وطن مُحترم بتاريخ محترم. وعلينا في النهاية أن نختار: إما أن نستعيد احترامنا لأنفسنا ولبلدنا؛ وإما أن نبقى في الحضيض الحضاري لا نخرج منه أبدا، فنعيش إلى الأبد عيش الدواب : بل وما دون الدواب بكثير.
"النظافة أولا .. النظافة هي الحل"