كنت كغيري أسمع عن أصغر عضو هيئة تدريس في جامعة القاهرة وهو يقود المظاهرات ويلقي الكلمات ويقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومه لائم.
وكنت كغيري من الشباب أتمنى معرفة هذا الأسد الجسور، والعالم الرباني المحبوب غير أن سفره وسفري حال دون ذلك فكلانا غادر مصر.
وكان أن جمعتنا البحرين على غير موعد فقد تعاقد معهم أستاذا زائرا ثم مستشارا للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية عندهم.
وحدث أن جمعتني به منصة المحاضرة للشباب المسلم هناك وكانت كلمتي قبل كلمته،وكان اللقاء لمرتين على أسبوعين، فتعرف إلي يومها فلما علم أنني لا أحمل درجة علمية بعد الليسانس قال لي:ومن أولى بالدراسة منا؟!
ثم جاءني بخمسة آلاف ريال يدفعها إلي لأبدأ بها رحلة البحث العلمي آنذاك.
ثم ظفرت منه بعدها بشرف التلميذ الصاحب،فتتلمذت على يديه،وجلست الساعات الطوال في بيته ودرسه ومجلسه، وعطر هو بيتي زائرا متواضعا عندما دعوته لذلك وحتى من غير أن أدعوه.
وعلى مدى سنوات طوال قضيتها في كنف التلمذة على يديه أنا وجمهرة من شباب الدعوة رأيت ما تمنيت أن أراه في علماء الأمة فوجدته فيه دونهم!!
وجدت رجل عامة ميدانيا لم تشغله صومعة العلم عن خوض ميادين الدعوة والجهاد والتربية،يقدمه في ذلك علمه، والقبول الذي وضعه الله في قلوب الناس نحوه،وحبه للخير، وسخاء نفسه وكفيه حتى أحبه الناس مرافقوه ومخالفوه!!
وأشهد لقد حضرت درس علمه يوما فأخبرنا أحدهم أن المهندس الفلاني أصيب في حادث هو وزوجته ويطلبون الدعاء فدعا لهما الشيخ الدكتور ثم لما انصرف القوم ناداني منفردا وأعطاني آلاف الريالات لأعطيها الرجل المصاب دون أن يعلم أحد،فلما قلت له ولم؟ قال:ليس حظ الناس من الناس فقط وقت البلاء الدعاء، وإنما حظهم من إخوانهم البذل والعطاء،ولعله أحوج الآن إلى دراهمنا أكثر من حاجتنا لكلامه،وقد كان فقد أخذ الرجل المال مني ولسان حاله كحال المرأة التي جاءها دينار إبراهيم بن أدهم عند مخاضها على حاجة منها فقالت: اللهم لا تنس هذا اليوم لإبراهيم أبدا!! وكأني بالرجل يقول بلسان حاله: اللهم لا تنس هذا اليوم لعبدك صلاح أبدا.
ومن مثل هذه المواقف حدث ولا حرج مع تلامذته، وأصحابه وإخوانه.
أما عن عذب حديثه وخفة ظله وأنس مجلسه فحدث ولا حرج، فالطرفة من الدكتور صلاح حاضرة ولو كانت قديمة، والمواقف تملأ ذاكرته قديمها وحديثها، حتى أنك تحار عند سماع محاضرته،أتؤخذ لروعة ما يسلب اللب من رصانة العلم،أم تطرب وتضحك من القفشات التي تهيج أضحكات حتى تخرجها من القلب؟!
أما عن علو همته فلا أظن بلدا خلقها الله لم تطأها قدمه، ولا موضعا في المكان الذي يعيش فيه لم يأخذ حظه من دعوته وبصمته.
أما عن تواضعه على رغم ما حوا عقله وقلبه من علم فحدث ولا حرج.
حدث أن توفي والده رحمة الله عليه وهو في البحرين فتقاطرنا إلى بيته فوجدناه باكيا بكاء الصبي بقلب نعرفه منه فهو الندي،فلما جلسنا حوله قلت له:ألا نصلي صلاة الغائب؟ فقال لي:نعم كما ترون؟ وكأنه على علمه أكرمه الله يستشيرنا لا يأمرنا ثم تقدم فصلى ثم دعا دعاء لأبيه وددت لو سجلته وأذعته على الناس لفرط روعته ورقته.
وعن رجولته وقوة بأسه رغم رقة قلبه فحدث ولا حرج،فهو السباق إلى مصر في مهد الثورة رغم سماقة وظيفته في البحرين،فلما عاتبه بعضهم على سرعة تلبيته لنداء الحق والواجب وعدم خوفه لضياع الوظيفة قال شامخا حفظه الله:
لقد اشترطت عليهم عند التعاقد ألا يمنعوني من أسفار الدعوة والعطاء للدين وإلا فلا حاجة لي في وظيفتهم ولو كان وراءها مال الدنيا!!
هذا هو الدكتور البطل صلاح سلطان الذي يوجه اليوم رسالة استغاثة لولده وفلذة كبده،ليس خوفا عليه من الموت وهو الذي دفع به إلى دخول غزة وقت أن كان دخولها ثمنه حياة الناس!! إنما لأنه كإنسان سوي يكره الموت البطيء لنفس مؤمنة فكيف إذا كانت هذه النفس نفس ولده محمد وارث رجولته،وربيب أدبه وفضله.
وإذا كانت صرخة أستاذي البطل قد هزت قلبي، وحركت جنبات نفسي فإنني وفاء لهذا العلم المربي أستحلفكم بالله أن تجأروا بالدعاء إلى الله أن ينقذ الولد رحمة بالوالد،الذي أشعر الآن كم الألم الذي يعتصره،والشفقة التي تتملكه على محمد صلاح وما أدراكم ما محمد صلاح سلطان!!
حفظ الله الشيخ العالم العامل، ونجَّى الله ولده وسائر فلذات الأكباد، ورد علينا هذا البطل لنكمل التتلمذ على يديه،والجلوس تحت قدميه، وهو أهل لذلك.