محمد حامد عليوة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى الأمين ، وعلى آله وآصحابه ومن والاه أجمعين ، وبعد ،

يقول الله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة 214 .

نزلت هذه الآية الكريمة يوم الخندق ، يوم أن عاشت الجماعة المسلمة فى المدينة أصعب الأوقات ، وأقسى الحالات نفسيا وبدنيا ، يوم أن تكالبت عليهم قوى الكفر لتزيل وجودهم ، وتجعلهم أثراً بعد عين، ولقد كان السياق القرآني معبرا بدقة عن هذه الحالة ، فقال تعالى : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) الأحزاب : 10-11 ، ورغم هذه الزلزلة الشديدة التى أصابت الفئة المؤمنة يوم الأحزاب ، فقد صبروا على ما أصابهم ، وتعلقت قلوبهم بمولاهم حتى أتاهم نصر الله ، واندحرت جيوش الكفر تجرّ أذيال الهزيمة ، وتتجرّع كؤوس الذل والمهانة ، وكانت واقعة الأحزاب درساً عظيماً للأمة المسلمة ، أظهرت حقيقة النصر ، والسبل المؤدية إليه.

ولعل الظروف التى تمر بها الأمة والمحنة التى ألمت بالدعوة هذه الأيام ، تدعونا إلى التأمل فى هذه الواقعة ، واستخلاص الدروس العملية والمعاني التربوية ، التى تعيننا على مواجهة المحنة ، وتبشرنا بنصر الله وفرجه القريب .

 

وقفات تربوية :

أولا : أن هذا سؤال لم يصدر من شخص يائس ضعيف الإيمان ، ضعيف الصلة بالله تعالى ، وإنما صدر من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ومن المؤمنين الذين وثقوا بوعد الله . وهو ما يدعونا إلى إدراك أن النصر المبين تسبقه محن كبيرة تزلزل قلوب المؤمنين بما فيهم الرسل ، لولا تثبيت الله لهم .

ثانيا : أن السؤال لم يكن (كيف نصر الله ؟ ) أو (أين نصر الله ؟) ، لأن السؤال بكيف وأين يحمل مشاعر اليأس من تحقق النصر ، ولكن كان السؤال (متى نصر الله ؟) وهو ما يؤكد يقين الفئة المؤمنة بتحقق النصر ولكن قد يتأخر الوقت . وهو درس لنا أن نصر الله مع الصبر والثبات واليقين قادم وقائم لا محالة . هذا وعده سبحانه ، ووعد رسوله الأمين ، فقد قال لابن عباس (واعلم أن النصر مع الصبر)  رواه الإمام أحمد  

ثالثا : أن متى نصر الله ؟ تعنى أيضا تسليم النبي والذين آمنوا معه أن النصر من عند الله ، وهو ما يدعونا إلى أن لاتتعلق القلوب بغير الله ، لأنه سبحانه نعم الناصر والمعين ، فلانغتر بقوتنا وعدتنا ونظن أنها فقط سبب نصرنا ، كما يدعونا هذا المعنى إلى  أن لانجزع من قوة عدونا ، لأن الله ناصرنا ، طالما أخذنا بكل أسباب النصر (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126].

رابعا : النصر بعد الزلزلة ، هذه سنة الله فى دعوته وأولياءه وأعداءه ، والقرآن الكريم فى مواضع عدة يؤكد هذه الحقيقة ، فيقول سبحانه :  (وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.) ، وقوله سبحانه : ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ ، وقوله سبحانه : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) . فلنصبر ونثبت ثم ننتظر نصر الله القريب .

خامسا : النصر قريب ، وهي بشرى للصابرين المحتسبين ، وطمأنة لقلوب المبتلين ، أصحاب القلوب المتعلقة بمولاها ، ولكن متى يقع ويتحقق ؟ هذا أمر يختاره الله ويحدده سبحانه فى الوقت وبالكيفية المقدرة منه جل وعلا ، لأنه مصدر النصر ، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) .غافر : 51

ومن يتأمل فى قول ابن عطاء الله السكندرى يدرك هذا الأمر : (لا يكن تأخير العطاء مع الالحاح فى الدعاء موجبا لليأس ، فالله تعالى يضمن لك الاجابة فيما يختاره هو سبحانه لك ، لا فيما تختاره أنت لنفسك ، وفى الوقت الذى يريده هو سبحانه لا الوقت الذى تريده أنت ، فلعل الله أراد أن يعطيك فحرمك) .

 وختاما :

 ما يجب علينا - أيها الأحبة -  ونحن نمر بهذه الظروف ، ودعوتنا على محك المحنة والفتنة ، أن نصبر ونحتسب ، وأن نثبت على المبدأ والطريق ، وأن نكون أوفياء لبيعتنا ودعوتنا ، وأن ترتبط القلوب بمولانا ، وأن  تقوى صلتنا بخالقنا ، بذلك وغيره نمتلك مقومات النصر ، ونحقق فى أنفسنا ما يؤهلنا لنزول نصر الله . ولنوقن أنه اذا ضاقت السبل وانقطعت بنا الحيل فليس لنا غير باب الله ، فهو الذى يكشف الكرب ويدفع الضر .
(قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) الأنعام : 63 – 64
فأبشروا بفرج الله القريب ونصره الذى يلوح فى الافق ، وهو نصر أكيد مع الصبر والصمود الذى يسطره الأحرار من أبناء مصر كل يوم ،  واصرارهم البطولى - رغم قسوة الظالمين وبطشهم - من أجل استرداد حريتهم المسلوبة وشرعيتهم المنهوبة .

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون .  (وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً) الإسراء 51
(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الروم  4-5 .

والحمد لله رب العالمين