فدوى حلمي

في حمّى التغطية الإخبارية المصريّة لعملية الاستفتاء على الدستور المصري 2014، هناك خبر بعينه استولى على عناوين العديد من الصحف والمواقع الالكترونية المصريّة بالصيغ التالية : ( "نعم" تكتسح الاستفتاء بمسقط رأس سيد قطب) ، ( قرية سيد قطب تلحق بقطار نعم )، ( نعم بمسقط رأس سيد قطب )، ( مسقط رأس سيد قطب بأسيوط تصوت بنعم للدستور)، ( موطن سيد قطب نعم مقابل لا ) ...، وغيرها الكثير من العناوين الإخبارية المحتفية باكتساح التصويت للدستور المصريّ ب ( نعم ) في قرية موشا، فقط لأنّها القرية التي وُلد ونشأ فيها سيّد قطب، فبعد مرور 47 عاماً على رحيل الأديب المفسّر ما زالوا يطاردون اسمه مقتنعين أكثر من غيرهم أنّه ربما و بطريقة ما قد يتمكّن سيّد من إقناع سكّان قريته بالتصويت ب (لا) على دستور العسكر! يؤكدون باحتفائهم هذا أنّ في معادلة هيمنة العسكر هناك دوماً في المقابل سيّد قطب، و مع أنّهم أوصدوا بأبواب مصفّحة كافّة ممرات الحريّة التي نادى بها سيّد، وصبّوا أطنان الأسمنت المسلّح على صوته حتى لا يتسلّل الصدى، لكنّهم يخشون اليوم احتمال 1% أن تستطيع فكرة قطبيّة مندسّة التسرّب فتعكّر صفو الاستفتاء في قرية سيّد.

لطالما اتهموا الإسلاميين بأنّهم تراكيب ماضوية معقّدة، لكنّهم اليوم يستحضرون خصومهم قبل قرابة الخمسين عاماً ليسجّلوا عليهم نقطة انتصار زائف في كرنفال دستور الانقلابيين، فيُسقطون أنفسهم بأيديهم وبكلماتهم يفضحون حجم أزمتهم التي طفحت بأكاذيبهم حول مصر في مجابهة (الآخر الإرهابي) المتمثّل في المطالبين بالشرعيّة وفي مَن رفض مجزرتي رابعة والنهضة وفي من يعارض سياسات العسكر باضطهاد حريات الشعب والاعتداء على النساء، في محاولة لإعادة استنساخ حقبة الدولة البوليسية في مصر بوضع الحاضر تحت الإقامة الجبريّة واللهو بالمستقبل بسيناريو الزعيم ينقذ مصر، وفي ظل غياب أمناء الحقيقة ستصوّر خشبةُ العنف الإعلامي قرية بسيطة في أسيوط كجمهورية عظمى كان يترأسها سيّد قطب عدو مصر 2014 واكتسح فيها التصويت بنعم لدستورهم.

هذا المسلك المعتلّ يسعى إلى خلق تهديدات وهميّة يعقبها انتصارات (إذاعة صوت العرب) في لجّة بعثرة صورة الواقع الأكبر، وهو نهج قديم للاستبداد العسكريّ في مصر كما يظهر من كلام الشيخ محمد الغزالي : "إنّ جمال عبد النّاصر لم يكسب معركة قط إلّا المعركة التي أدارها ضد إخوانه وضد الإسلام، وضد كرامات الناس...، وإنْ تعجب فاعجب لجهاز لكذب الذي بقي يعمل دون توقف، قيل لنا: (أتظنّون أننا انهزمنا؟ كلا، إنّ العدو لم يحقق هدفه، إنه كان يريد إسقاط جمال فخاب سعيه)، أرأيت صفاقة أوقح من ذلك؟". فيبدو أنّ إنتاج رمز شعبيّ من رداء طاغية رثّ يحتاج إلى الكثير من حياكة الوهم وصناعة الفزع الوطنيّ، ولأنّ الجهل من مقومات نجاح هذا النوع من الإنتاج فيخوفونهم من صاحب الظلال.

 

يخوفونهم من رجل كان يتملّكه الاحتراس ويَوْجلُ روعه بين يدي تفسير القرآن الكريم، وقد وصف سيّد قطب حالته هذه بقوله : "يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن! إنّ إيقاع هذا القرآن المباشر في حسّي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي، ومن ثمّ أحسّ دائما بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للنّاس في هذه الظلال!". يخوفونهم من فكر قطبيّ تكفيريّ، وقد كفر سيّد فعلاً بالطغيان وبعبادة البشر للبشر يقول : "وما يمكن أن يطغى فرد في أمّة كريمة أبداً، وما يمكن أن يطغى فرد في أمّة رشيدة أبداً، وما يمكن أن يطغى فرد في أمّة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً! فأمّا فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلّة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: (أنا ربكم الأعلى)". فهذا المستوى من ثقافة التوحيد هو الكفر في عقيدة الفراعنة الجدد، الموجب لشحن الجماهير بتيارات الكراهية والعداء لكل من ينادي بتطبيق عبودية الله وحده بعيداً عن شرك الحكّام والأحزاب، هذه هي معاركهم مع سيّد وصحبه وليست معركة تحرير مصر من الإرهاب.

 

وتبقى الإشكالية التي نحن بصددها هل سيقبل الشارع خوض معارك طواحين الهواء؟ وهل سيقبل الشعب بتأجير أدمغته إلى نظريات خيالية تختزل الواقع في صراعات خارجة عن الحقيقة؟ هل ستقبل مصر أن تبقى مختطفة وراء متاريس أطول عملية استغفال وخداع فكريّ؟