محمد منصور : 


يُعَدُّ الصقر هو الأطول عمراً بين الطيور؛ إذ يعيش حتى سن السبعين، و لكى يحفظ على نفسه قوته ولياقته و مهارته في الصيد؛ لتأمين مصدر غذائه؛ يلزمه أن يتخذ أصعب قرار في حياته عند بلوغ سن الأربعين؛ إذ تتهدده ثلاث مخاطر :

الأولى: عجز مخالبه ـ التي كانت تتميز بالمرونة ـ عن الإمساك بالفريسة.

الثانية: أن منقاره القوي الحاد المعقوف قد أصبح شديد الانحناء عن المعدل الطبيعي.

الثالثة: ثقل أجنحته؛ نتيجة ثقل ريشها، و من ثَمَّ تلتصق بالصدر؛ مما يعرقل الطيران و التحليق في الفضاء، إنْ لم يجعله في غاية الصعوبة.  

هذه الظروف القاسية الضاغطة؛ تضع الصقر أما خيارين لا ثالث لهما :

الأول: أن يستسلم للموت البطيء.

الثاني: أن يُخْضِعَ نفسه لإجراء عملية تغيير قاسية مؤلمة، تستغرق 150 يوما؛ يقوم خلالها بالتحليق إلى قمة الجبل؛ حيث عشه، ثم يقوم بضرب منقاره على صخرة بكل ما أوتي من قوة؛ لكسر مقدمة منقاره المعقوفة، و بعد كسرها ينتظر حتى ينمو منقاره من جديد، و إلى أن ينمو يقوم بكسر مخالبه أيضا، ثم يبدأ المرحلة الأخيرة من عملية التغيير، بنتف ريشه القديم؛ ليخرج من بعد 150 يوما ( 5 شهور ) محتفلا بميلاده الثاني؛ ليعيش 30 عاماً أخرى ملؤها القوة.

و كذلك الأمم الناهضة تبنى تاريخها الناصع على أكتاف رجال عمالقة و عزائم عظيمة و همم عالية، نفوسها لا تعرف الحدود و لا تعترف بالحواجز، تحتاج إلى صفاء النوايا و نقاء السرائر، تحتاج الذين لا يكلون و لا يملون.

خاصة إن امتلكوا وضوح الرؤية كحال صقرنا، والتي كانت الكفيلة بتحديد ميدان المعركة الرئيسية وسط ميادين المعارك الثانوية مثل: لعن الزمان و إلقاء اللوم على عوامله وتضخيم السلبيات و التعلل بكبر السن ووهن العظم، و كلها يمكن أن تستنفد قواه و تستدرجه بلا طائل وراءها، و إنما كانت رؤيته الواضحة هي الكفيلة بترجيح منهج أصيل للتغيير ، عنوانه ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) من بين المناهج الكثيرة الزائفة.

و هذا المعني ـ تغيير النفس أولاًـ كان مستقرا استقرارا تلقائيا في نفوس رجال الصدر الأول ـ رضوان الله عليهم ـ و من ثم أمكنهم أن يغيروا واقع الحياة في فترة تشبه الأحلام.

وهذا ما أرشدنا إليه الإمام البنا ـ رحمة الله ـ فقال: ( إن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين… وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة والعزيمة القوية الصادقة والسخاء بالتضحيات والإقدام عند الملمات وبغير ذلك تغلب على أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها).

وغني عن القول كما قال حسن البنا رحمه الله: ( أنه لا يصلح لتحمل هذه الأعباء والقيام بهذه الأعمال إلا من رصدوا حياتهم لهذه الدعوة، وراضوا أنفسهم على تحمل مشاق الطريق، يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يتقنون عملهم رجاء القبول؛ فلا يقصرون ولا يتباطئون، يبتغون وجه الله ولا يراءون، و لا يقوم بهذه الأعباء إلا من أعد نفسه، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة، والاختبار الدقيق، وامتحنوها بالعمل، العمل القوي الشاق عليها وأفطموها عن شهواتها و مألوفاتها وعادتها، فإنه يسهل على كثيرين أن يتخيلوا ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالاً باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع العمل، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد والعمل المضنى)

ويعلق الاستاذ / مصطفى مشهور رحمه الله قائلا: ( وقد أثبتت الأحداث والأيام أنه بقدر الاهتمام بالتربية تتحقق الأصالة للحركة الإسلامية واستمراريتها ونموها، ويكون التلاحم بين الأفراد ووحدة الصف، والتعاون والإنتاج المبارك…. فالتربية دور أساسي مطلوب منا و لنا.

وبناء عليه يجب على القائمين على عملية التربية أن تكون رؤيتهم على بصيرة من طبيعة المرحلة و حقيقة المعركة و حجم التحديات و جوهر الرسالة و الدور الذي عليهم القيام به) .

و من هنا نريد أن نجعل حلقاتنا التربوية مستشفى لصحة الإيمان و الاستقامة و الثقة بالله و الاقبال على الله و الآخرة و أن تنتج النموذج الذي يستطيع أن يتعامل مع المجتمع لا مع إخوانه فقط بمعنى ان يخالط الناس و يخاطبهم على قدر عقولهم لا من حيث انتهى هو، و يصبر على أذاهم و ماهرا في مد و زيادة الجسور بيننا و بين الناس واضعاً نصب عينيه قول الله عز وجل : ( يا بني أقم الصلاة و أمر بالمعروف و وانه عن المنكر و اصبر على ما أصابك؛ إن ذلك من عزم الأمور ). لقمان/17

 (فأقم الصلاة ) تهيئة إيمانية و صلة واستعانة  بالله على المهمة العظيمة وهي ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر )، وستكون التحديات فكان ( و اصبر على ما أصابك )، من نتائج ومعوقات في طريق العمل لدعوة الله ؛ لأننا لا نريد فقط أن يتعاطف الناس مع الفكرة، بل نريد كلٌ منهم أن يؤمن بما نؤمن به ويحمله معنا ، و لنعلم أن هذه معالم الطريق و إلا سنصدم (إن ذلك من عزم الأمور )؛  ذلك أن المجتمع لن يتقدم إلا إذا ذهب إلى الله، و إلا فما قيمة عبادة  تجعل صاحبها محايداً ؟ ؛( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).

وعلى قدر نجاح القائمين على العملية التربوية في تكوين النماذج التي تعي ماذا يعني انتماؤها للإسلام؟ ؛ سيكون حصادنا هو خير ما في الدنيا، و في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار و رضوان من الله أكبر.