د. ياسر علي

لم يكن منبع النيل الذى خلده فى الوجدان أمير الشعراء أحمد شوقى وجسده موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب النيل نجاشى، أعنى الحبشة أو إثيوبيا بتاريخها العريق، محل اهتمام رسمى وشعبى معتبر طيلة العقود الماضية، لكن البكاء على اللبن المسكوب لن يفيد، فالمهم الآن تدارك الأزمة الحالية، وأظنه بدأ بالتكاتف بين القيادة السياسية والقوى السياسية.
فرغم الضجة الإعلامية التى صاحبت الحوار الوطنى الذى دعت إليه رئاسة الجمهورية وشارك فيه العديد من القوى السياسية، والاختلاف حول عدد من القضايا الشكلية لهذا الحوار أو حتى الاختلاف مع محتوى بعض ما طرح فيها، غير أننى أراه بداية لتحرك مصرى حقيقى حول قضية النيل وزيادة مواردنا المائية الحالية.

إن أزمة مياه النيل بدأت تطفو على السطح منذ مايو 2009، بعد مؤتمر دول حوض النيل فى كينشاسا الكونغو الديمقراطية، عندما طالبت مصر بالالتزام بمبدأ التشاور والإخطار المسبق فى حالة إقامة أية مشروعات مائية على ضفاف النيل، توافقا مع ما ينص عليه القانون الدولى من ضرورة التزام دول المنبع بعدم إحداث أى ضرر لدول المصب، وبما يتفق مع حقوق مصر التاريخية فى حصة مياه النيل. وقد فوجئت مصر بإصدار دول حوض النيل بياناً مشتركاً حدَّدت فيه موقفها من نتائج اجتماع كينشاسا على أساس قيام مبادرة تستهدف حوض النيل بكامله مع التزام الجهات المانحة بدعم المبادرة، بل وقد صدرت تحذيرات باستبعاد دولتى المصب (مصر والسودان) من توقيع الاتفاقية فى حالة عدم الموافقة على بنودها.

وتمثلت نقاط الخلاف الرئيسية فى مطالبة دول حوض النيل (خاصة تنزانيا وكينيا وإثيوبيا وأوغندا) بإعادة النظر فى الاتفاقيات القديمة التى تحكم دول حوض النيل، بدعوى أن الحكومات الوطنية لم تبرمها ولكن أبرمها الاحتلال نيابة عنها، بالإضافة إلى المطالبة بالاستغلال المتساوى لحوض النيل بذريعة أن هناك حاجة لدى بعض هذه الدول (كينيا وتنزانيا) لموارد مائية متزايدة، بل هددت تنزانيا وكينيا وأثيوبيا بتنفيذ مشروعات سدود وقناطر على نهر النيل تقلل من كميات المياه التى ترد إلى مصر.

وقد اشترطت مصر وقتها لتوقيع الإطار القانونى والمؤسسى للاتفاقية أن تتضمن نصاً صريحاً يقضى بعدم المساس بحصة مصر وحقوقها التاريخية فى مياه النيل، وضرورة الإخطار المسبق عن أى مشروعات تقوم بها دول أعالى النيل. فمصر إذن لم تمانع فى إقامة أية مشروعات تنموية فى دول أعالى النيل ولكن بشرط ألا يؤثر أو يضر بحقوقها القانونية وحصتها فى مياه النيل، بل على العكس من ذلك أوضحت مصر استعدادها لتقديم كل العون والتنسيق مع دول حوض النيل سواء داخل المبادرة أو خارجها فى مجال التدريب أو تبادل الخبراء والمساعدة فى إيجاد التمويل اللازم للمشروعات التى تعود بالفائدة على دول الحوض، ولكن ذلك فى إطار احترام حقوق حصص المياه.

من ناحية أخرى طالبت مصر بأن تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أى من بنود الاتفاقية أو الملاحق بالإجماع وليس بالأغلبية، وفى حالة التمسك بالأغلبية فيجب أن تشمل دولتى المصب مصر والسودان لتجنب انقسام دول الحوض ما بين دول المنابع التى تمثل الأغلبية ودولتى المصب اللتين تمثلان الأقلية.

أما إثيوبيا فقد أعلنت فى ذلك التوقيت رفضها لاتفاقيتى 1929 و1959 وسعت منذ عام 1981 لاستصلاح 227 ألف فدان فى حوض النيل الأزرق بدعوى عدم وجود اتفاقيات بينها وبين الدول النيلية الأخرى، وقامت بالفعل بتنفيذ عدد من المشروعات مثل مشروع سد فيشا - أحد روافد النيل الأزرق - الذى يؤثر على حصة مصر من مياه النيل بنحو 0.5 مليارا متر مكعب سنوياَ، ومشروع سنيت على أحد روافد نهر عطبرة، ومشروع خور الفاشن الذى يقع أقصى شرق إثيوبيا ويؤثر فى المياه التى تصل إلى مصر بمقدار 4.5 مليارات متر مكعب، ومشروع الليبرو على نهر السوباط.

وفى فبراير 2009 استكملت إثيوبيا إنشاء أعلى سد فى القارة الإفريقية على منابع النيل، وهو سد تيكيزى الذى يبلغ ارتفاعه 188 مترًا، الذى يقوم بحجز 9 مليارات متر مكعب من المياه وصولا إلى مشروع سد النهضة الذى ما زالت آثاره على حصة مصر من مياه النيل وفق تقرير اللجنة الثلاثية غير محددة.

وفى كل الحالات فإن واقع مستقبلنا المائى يشير إلى تناقص فى نصيب الفرد مع النمو السكانى المتزايد والاحتياجات الزراعية والصناعية الضاغطة، ولذا فهناك حاجة إلى ترشيد استهلاك المياه خاصة فى القطاع الزراعى الذى يستهلك أكثر من 83% من حصة مصر من المياه العذبة. فندرة المياه العذبة أصبحت قضية تتخطى حدود اليوم إلى الغد.

إن قضية السد الإثيوبى تحتاج لتضافر جميع الجهود. فعلى القوى الوطنية ألا تتعامل فقط مع قضية السد على المدى القصير، بل عليها أن تتعاون فى بناء رؤية لمصر ونهر النيل خلال العقود القادمة، وأن تعكس من خلال برامجها الانتخابية والحزبية رؤى واضحة حول كيفية التعامل مع تلك القضية، وتطرح بدائل الترشيد والاستخدام المستدام لمياه النهر حيث تشير البيانات والإحصاءات إلى دخول مصر عصر الفقر المائى، فمن المتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من المياه إلى 582 مترا مكعبا سنويا عام 2025.

أما علاقتنا بالقارة السمراء فتحتاج إلى إعادة تقييم والبدء فى شراكة حقيقية لاعتبارات معروفة للكافة، وأتصور أنها بدأت بخمس زيارات رئاسية فى عام واحد وبافتتاح طريق برى بين مصر والسودان تمهيدا لاستحداث شبكة طرق تصلنا بأشقائنا، وتحتاج أيضا لتفعيل القوى الناعمة من خلال وسائل الإعلام والدبلوماسية المصرية العريقة، وحذف لغة الاستعلاء التى كانت سائدة وربما كانت أحد الأسباب التى أدت إلى ما نحن فيه الآن، ووضع استراتيجية متكاملة بين القيادة السياسية وشركاء الوطن وتنحية الخلافات السياسية الحالية جانبا.

نقلا عن الأهرام اليومي