د. أحمد نصار :

*حكم جديد.. جدل جديد..

في ظل رغبة واضحة من الرئيس المصري في استكمال المؤسسات الدستورية للنظام السياسي الجديد في مصر عقب الثورة – وعلى رأسها المؤسسة التشريعية- يأتي حكم المحكمة الدستورية اليوم برئاسة المستشار ماهر البحيرى، رئيس المحكمة وعضوية المستشارين عدلى منصور، وأنور العاصى، وعبد الوهاب عبد الرازق، ومحمد الشناوى، وماهر سامى، ومحمد خيرى، نواب رئيس المحكمة وحضور المستشار الدكتور حمدان فهمى، رئيس هيئة المفوضين بعدم دستورية القانون رقم 79 لسنة 2012 بمعايير انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية لإعداد مشروع دستور جديد للبلاد.

وكان المدعيان قد أقاما الدعوى رقم 45931 لسنة 66 قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى بالقاهرة، طلباً للحكم بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها وقف إجراءات السير فى انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور وبطلان جميع القرارات التالية للقرار المطعون فيه.

وقد أثار هذا الحكم جدلا جديدا يضاف إلى الجدل القديم حول دور سياسي مزعوم تقوم به المحكمة الدستورية حسبما يرى أنصار الرئيس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر.

***

*المحكمة الدستورية.. تاريخ من الأحكام الجدلية:

ليس هذا هو الحكم الأول للمحكمة الدستورية العليا في مصر الذي يثير جدلا شعبيا وسياسيا واسع النطاق، ويحدث استقطابا في مصر بين مؤيدي الرئيس ومعارضيه، بشكل يجعل كلا من الطرفين يقدم تفسيرات لأحكام المحكمة تصب في صالحه، يعقبها تبادل للاتهامات بين هذا الفريق وذاك.

فالمحكمة الدستورية سبق وأن أصدرت سلسلة من الأحكام المثيرة للجدل نذكر منها على سبيل المثال:
1- الحكم بعدم دستورية قانون مجلس الشعب 2011-2012 الذي أصدره المجلس العسكري وتم بناء عليه حل مجلس الشعب المنتخب في الحادي والعشرين من مايو 2012، أي قبل الانتخابات الرئاسية بيومين. وقد أثار هذا الحكم جدلا واسعا بعد تصريح الدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب السابق أن الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء السابق هدده بأن "حكم المحكمة في درج مكتبه"، وأيضا بعد تصريح الدكتور السيد البدوي رئيس حزب الوفد أنه "كان على علم بحكم الحل قبل أن يصدر"، مما أثار جدلا واسعان ووضع المحكمة الدستورية في خانة سياسية! ومما زاد من الاستقطاب بين الفريقين السابق ذكرهما أن المحكمة الدستورية كانت ممثلة أثناء وضع القانون من قبل المجلس العسكري والأحزاب، والتصريح الشهير الساق للمحامية تهاني الجبالي في صحيفة الأهرام الحكومية أنه لا يجوز للمحكمة الدستورية الطعن على القانون لأن المجلس العسكري أصدره على شكل إعلان دستوري وليس قانونا عاديا!


2- الحكم بإلغاء قرار الرئيس القاضي بعودة مجلس الشعب المنحل عقب أسابيع من وصوله للحكم.


3- الحكم بوقف قرار رئيس الجمهورية بدعوة الناخبين للانتخابات على أربعة مراحل كان مقررا لها أن تبدأ في إبريل الماضي – رغم حكم سابق مشابه قبل الثورة نص على أن ذلك من أعمال السيادة.


4- الحكم بعدم دستورية قانون الانتخابات الذي أقره مجلس الشورى الحالي.


5- الحكم بأحقية أعضاء الشرطة والجيش في التصويت والترشح عملا بمبدأ المساواة بين جميع المواطنين في الدستور الجديد، رغم أن ديباجة الدستور نصت صراحة على: "ثامنا : الدفاع عن الوطن شرف و واجب؛ و قواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل في الشأن السياسي، و هي درع البلاد الواقي. " كما تنص ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 197 من الدستور على التالي: "ﻳﺠﺐ ﺃﺧﺬ ﺭﺃﻯ ﻣﺠﻠﺲ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ الوطني في ﻣﺸﺮﻭﻋﺎﺕ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﺤﺔ" وهو ما لم يحدث. الأمر الذي دعا عباس ناصر مراسل الجزيرة في تقريره الذي أعده حول هذا الحكم إلى وصف المحكمة الدستورية بأنها "قلعة الدولة العميقة".


6- وأخيرا جاء هذا الحكم ببطلان قانون انتخابات مجلس الشورى، مع إيقاف تنفيذ الحكم لحين انتخاب مجلس نواب جديد وبطلان تشكيل الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور وعدم دستورية قانون الطوارئ ليثير مزيدا من الجدل في المياه السياسية المصرية، وملقيا بذات السؤال مجددا: هل تلعب المحكمة الدستورية في مصردورا سياسيا؟ خاصة مع توقيت الحكم المصاحب لحملة للتمرد ضد الرئيس المصري، حملة قال أنصارها أنهم جمعوا سبعة ملايين توقيع فيها، وإثر دعوات أطلقها قادة المعارضة للتظاهر ضد الرئيس المصري محمد مرسي في الثلاثين من يونيو القادم، بمناسبة مرور عام على حكمه والمطالبة بتنحيه، وتولي المحكمة الدستورية العليا إدارة شؤون البلاد.

***

*تعددت التفسيرات.. والجدل قائمُ..

وفور صدور الحكم تعددت التفسيرات من كلا الطرفين في محاولة من كل منهما لإثبات أن الحكم صدر في صالحه. ونبرز هنا أهم ردود الأفعال على هذا الحكم:

1- رد الفعل الأهم جاء من قبل المحكمة الدستورية ذاتها حيث صرح مصدر قضائي بالمحكمة الدستورية العليا لـ"بوابة الأهرام"، أن مجلس الشوري مستمر في عمله التشريعي، وأن حيثيات الحكم جاء بها أن المجلس مستمر في ممارسة سلطة التشريع وفقا للمادة 230 من الدستور، التي تنص على: تولى مجلس الشورى القائم بتشكيله الحالى سلطة التشريع كاملة من تاريخ العمل بالدستور حتى انعقاد مجلس النواب الجديد . ونفي المصدر صحة الخبر الذي تداولته إحدي وكالات الأنباء علي لسان المستشار ماهر البحيري رئيس المحكمة، من أن حكم اليوم الصادر ببطلان قانون انتخابات مجلس الشوري يعني أن المجلس مستمر دون سلطة التشريع. مؤكدا أن البحيري، لم يدل بأية تصريحات عن الحكم لأية وسيلة إعلامية وأن جميع أعضاء المحكمة لا يعلقون علي أحكامها في وسائل الإعلام مكتفين بمنطوق الحكم وحيثياته.


2- من ناحيته أكد الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، أن المحكمة الدستورية أقرت اليوم بقاء مجلس الشورى الحالي لحين انتخاب مجلس نواب جديد يقوم بالدور التشريعي، وذلك وفقا للمادة 230 من الدستور، وقال العريان عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي ''فيسبوك'' اليوم الأحد: ''المحكمة الدستورية العليا أبقت الأمور على ما هي عليه، وحملت كل الجهات مسؤوليتها للسير إلى انتخابات لمجلس النواب الجديد وفق أحكام الدستور الذي أقره الشعب بإرادته الحرة''.


3- كما أشار قال الدكتور محمد محسوب، نائب رئيس حزب الوسط ووزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية السابق، وعضو الجمعية التأسيسية السابق لوضع الدستور: إن الشعب المصري في استفتائه على الدستور اختار هذا المجلس لمباشرة سلطة التشريع كاملة، بما لا يجوز لأي جهة أن تتعرض له بالحل. وأضاف «محسوب»، في تدوينه له عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، اليوم الأحد، تعليقًا على قرار «الدستورية»، ببطلان مجلس الشورى، أنه لا يجوز لأي جهة أن تحد من اختصاصات مجلس الشورى التشريعية أو تتدخل في عمله، مشيرًا إلى أن هناك نصا واضحا وحكما لا يحتمل التفسير ككثير من أحكام الدستور، لكن البعض يهوى تفسير المفسر وتفصيل المفصل وتشويه الواضح.


4- فيما جاء رد فعل حركة 6 إبريل متباينا، حيث صرح المهندس أحمد ماهر مؤسس حركة 6 إبريل أن كل ما يحدث الآن وما سيحدث السنوات القادمة هو نتيجة للمسار الخاطئ الذي بدأ منذ استفتاء مارس 2011 وبسبب الاحتكام للشرعية الثورية في مواقف ثم الاحتكام للشرعية الدستورية والقانونية في مواقف أخرى حسب الحاجة.

واعتبر ماهر، في بيان له، اليوم الأحد، أن حكم الدستورية الحالي حكم "مسيس" حيث أنه صحيح ولكن فى وقت متأخر بما يبطل مفعوله، فكان ينبغى أن يكون هذا الحكم من اكثر من 8 شهور، فالعدالة البطيئة لا تفرق كثيرا عن الحكم الظالم.

وأكد ماهر أنه رغم من بعض أجزاء الحكم التي تبطل مفعوله ولكن هناك أجزاء كثيرة تفيد إن تم العمل عليها قانونيا وشعبيا من أجل حل حقيقي لمجلس الشورى الباطل الذى يشرع قوانين هامة كثيرة في غياب برلمان حقيقي تم انتخابه على قواعد عادلة، وإبطال دستور معيب يرسخ لنظام ديكتاتوري جديد ويتجاهل مبادئ الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بشهادة الجميع من محللين وخبراء دستوريين وحتى من كانوا أعضاء في الجمعية التأسيسية وانسحبوا منها.


5- فيما أكد زياد العليمي، النائب السابق في مجلس الشعب المنحل، أن تأخر حكم المحكمة الدستورية المتعلق ببطلان مجلس الشورى سيجعل تنفيذه مستحيلا، مشيرًا إلى أنه باق حتى انتخاب مجلس نواب. من جهة أخرى أوضح العليمي في تغريدة له عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، اليوم الأحد، أن اللجنة التأسيسية لوضع الدستور باطلة بينما الدستور سارٍ، مطالبا بحل "سياسي قائم على التوافق حتى نخرج من هذه الدوامة التي ستذهب بنا نحو المجهول".


6- وجاء الرد "الأعنف" حتى الآن من الدكتور صفوت عبد الغني، عضو اللجنة التشريعية بمجلس الشورى عن حزب البناء والتنمية الذراع السياسية للجماعة الإسلامية ، بأن "مجلس الشورى الآن وفي أول خطوة له بعد قرار المحكمة الدستورية "الباطل" بحله، سيسرع خلال الساعات المقبلة في الانتهاء من قانون "السلطة القضائية" في أسرع وقت، وثانيا سيتخذ إجراءات سريعة لعمل استفتاء شعبي يلغي بموجبه المحكمة الدستورية العليا التي أثبتت أنها لا تعمل لصالح الشعب".


وأضاف عبد الغني، في تصريحات خاصة لـ"صدى البلد"، أن "المحكمة الدستورية العليا ليس من سلطاتها إلغاء مجلس وإنما ينحصر اختصاصها فقط في الفصل في مدى دستورية القوانين، وأنها بحكمها الأخير تجاوزت سلطاتها كما تجاوزتها من قبل عندم قضت بحل مجلس النواب، ولذلك فالحل الوحيد هو حل هذه المحكمة".

وقال إن "مجلس الشورى الذي قضت اليوم المحكمة الدستورية بحله، مجلس منتخب وباق بموجب استفتاء شعبي على الدستور، وإن الاستفتاء الشعبي يعلو فوق المحكمة الدستورية ولذلك فلن تنال المحكمة العليا مأربها ولن ينحل المجلس بل سيتم حلها هى من خلال استفتاء شعبي قريب".

***
* الرئيس.. خيارات متقاطعة..

ولا تزال الأعين متعلقة بالرئيس المصري الذي دأب على التصريح باحترام أحكام القضاء، إلا أنه عودنا على دود أفعال غير متوقعة قد تجعل من كل الخيارات مفتوحة أمام الرئيس وأنصاره، وأهمها:

1- تنفيذ حكمة الدستورية..
ويرى أنصار هذا الرأي أن الحكم إذا دققنا النظر فيه لم يضف جديدا – اللهم سوى الزخم الإعلامي الشديد الذي صاحبه. فمجلس الشورى مستمر في عمله لأن الدستور المصري المستفتى عليه في ديسمبر الماضي يحصنه، والجمعية التأسيسية حلت نفسها بنفسها.. و يبدو هذا المعنى واضحا من كلام نائب رئيس حزب الحرية والعدالة الدكتور عصام العريان. وسيجنب هذا الخيار الحياة السياسية المصرية مزيد من الاحتقان الذي بدأ مع إعلان الرئيس للإعلان الدستوري المثير للجدل نوفمبر الماضي. وسيظهر هذا الخيار الرئيس بمظهر المحترم لأحكام القضاء، إلا أنه سيواجه غضب أنصاره الذي يشعرون أن المحكمة الدستورية تتربص بهم، وتنادي بأخذ إجراء "ثوري" ضدها.


2- الإسراع بتمرير قانون السلطة القضائية:
عملا بمبدأ اطرق الحديد وهو ساخن، ومستغلا الغضب الشعبي المتزايد ضد المحكمة الدستورية وقراراتها الأخيرة. وربما يلجأ الرئيس للتنسيق مع المؤسسة العسكرية في هذا الأمر والتي أساءها القرار الأخير بتصويت وترشيح العسكريين! (ظهر ذلك في تصريحات وزير الدفاع أن القوات المسلحة لن تسيس أو تحزب، وستظل مؤسسة وطنية مسئولة عن مصر وشعبها، وهذا الأمر لن يتغير أبدًا).


إلا أن هذا الإجراء سيزيد من حالة الاحتقان والاستقطاب قبيل أسابيع قليلة من التظاهرات التي دعا إليها قادة المعارضة نهاية هذا الشهر، وربما يشكل هذا الإجراء سكبا للزيت على النار. ورغم أنه يحق للمجلس ذلك فإن نتائج ذلك السياسية غير واضحة، خاصة وأن ما يخشى المجلس منه قد حدث.


3- طرح حل المحكمة الدستورية للاستفتاء الشعبي: وفقا للمادة 150 من الدستور المصري والتي تنص على: لرئيس الجمهورية أن يدعو الناخبين للاستفتاء فى المسائل المهمة التى تتصل بمصالح الدولة العليا. وستكون محاولة من الرئيس لإنهاء الصراع مع "قلعة الدولة العميقة" مرة واحدة وإلى الأبد،إلا أن هذا الخيار سيعد حرقا لكل سبل التواصل لصيغة تفاهم مع القضاة حول قانون السلطة القضائية، وستفسره المعارضة على أنه تغول من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وسيستفز القضاة جميعهم للإضراب عن العمل وتعطيل المحاكم، وسيجعل الصدام يوم 30 يونيو محتوما!

***

توصية:
أرى أن المعركة في مصر سياسية وليست قانونية أو دستورية، والحل في مصر لهذه الأزمة سيكون حلا سياسيا بامتياز. ولربما أراد الرئيس الوصول لأرضية مشتركة مع القضاة بتعيين واحدا من رجالهم وزيرا في الحكومة "حاتم بجاتو"، وإعلانه عن نيته حضور مؤتمر العدالة. أرى أن يقوم الرئيس باستغلال مواقف الصقور من أنصاره المنادية بالإسراع في الانتهاء من قانون السلطة القضائية، وربما طرح حل المحكمة الدستورية للاستفتاء الشعبي بغية الوصول لحل وسط compromise مع القضاة يخلخل الأرض مت تحت قادة المعارضة ويفوت عليهم الفرصة يوم 30 يونيو القادم، ويظهره أكثر وأكثر بمظهر المحترم لأحكام القضاء، وينتج عن هذا التقارب قانون انتخابات جديدة لا يحظى باعتراض المحكمة الدستورية، ومنهيا المرحلة الانتقالية التي شهدت عدم اكتمال مؤسسات الدولة. ولربما يباغت الرئيس معارضيه ويدعو لانتخابات تشريعية كاملة (نواب وشورى) ،نهاية العام المقبل وطلع العام الجديد، بناء على قانون الانتخابات الجديد، وهو الشيء الذي لن تكون المعارضة مستعدة له إطلاقا، وسيكون نجاح الإسلاميين في انتخابات البرلمان بغرفتيه مرجحة.

أما البديل فسيكون سيناريو تناحر المؤسسات وتبادل اللكمات بين السلطتين التشريعية والقضائية. وعندها لن يكون هناك حل سوى أن تضع الدستورية القانون بنفسها، أو أن يعود المجلس سيد قراره كما كان، وهو ما لن تسمح به أي من الطرفين!