حازم سعيد :
تمهيد :
- أعتذر للقراء الكرام عن تأجيل الجزء الثاني من مقالة بقع سوداء في ثوب السلفية الأبيض ، وذلك أني أعتبر موضوع اليوم واجب الوقت من جهات ، أولها أن النقد الداخلي التصحيحي لممارسات أفراد الإخوان أوجب وأولي وأجدر بالقبول والتلقي من كاتبٍ من الإخوان ، والثاني أن بعض الجوانب الشرعية التي أوردها إن شاء الله في مقالة السلفيين القادمة تحتاج لقراءات فقهية وأصولية وهو ما لم أتمكن منه هذا الأسبوع لانشغالات عديدة ، فأؤجل المقالة بإذن الله إلى أن ييسر الله سبحانه بعض القراءات التي أحتاجها لإكمالها .
- الدافع لهذه المقالة هو حالة العصبية التي رأيتها من نفسي ومن إخواني بالعشرات .. بل المئات في حواراتنا مع المقربين منا وأصدقائهم وعائلاتهم حول الرئيس مرسي والإخوان والحرية والعدالة وإنجازات الحكومة ... الخ ، وأصبحت ظاهرة أن يتحاور الأخ من الإخوان مع قريبه أو صديقه أو ذويه ، وينتهي النقاش في الغالب بارتفاع في ضغط الدم وغليان في العروق وانتفاخ في الأوداج ، وفراق على غير سلام وبتغير في الصدور ... ولأن الموضوع أصبح مشاهداً لكثير من أفاضل الإخوان ، فالأمر يستلزم هذه الوقفة السريعة مع الموضوع ببعض الخواطر والتنبيهات ، أسأل الله التيسير والتوفيق .
تجاوز العقل والمنطق وسوء أدب الخصوم :
الموضوع فعلاً يتجاوز حدود العقل والمنطق من المعارضين في كثير من الحوارات ، وعلى رأس الأمثلة أن يقارن المعارضون رئيساً تولى السلطة منذ عام ويحاولون تشبيهه بالفاسد الذي نهب البلاد ودمر الثروات والكرامات وانتهك الأعراض والأموال على مدار ثلاثين سنة . قسمة ضيزى لا تستقيم بها الأمور ولا تعقلها الأفئدة السليمة .
ومن أمثلة غير المعقول أن يتمنى الذي تحاوره وهو ابن عم أو ابن خال أو صهر أو نسيب أن يلقى الإخوان كلهم بالسجون والمعتقلات ( وبالطبع أنت داخل في دائرتهم ) ، ومن الأمثلة أن تجد صديقك الذي عشت معه سنوات دراستك كلها من الحضانة إلى التخرج ويأكل في بيتك وينام أكثر مما يفعل في بيته ، ثم يفاجئك أنه يصدق أنك يمكن أن ترمي بزجاجة مولوتوف لتحرق كيان حكومي يمتلكه المصريون جميعاً ، أو يصدق أنك " خروف " تلقى بعقلك على عتبات جماعتك ، أكرر وهو زميلك الذي رافقك طيلة سنين دراستك ويعرف شخصيتك حق المعرفة ...
ذلك كله بخلاف تصديق سيل الشائعات عن بيع البلد أو دخول حماس والفلسطينيين وتمكينهم من مصر أو بيع قناة السويس أو أصول مصر ... إلى غير ذلك من الترهات ، وتفاجئ بأرقى الناس وفق الدرجات العلمية يصدق هذه التفاهات عن زملائهم الذين يعيشون بينهم ويجاورونهم ويتصاهرون معهم ...
اشياء كثيرة تتجاوز حدود العقل والمنطق والبداهة ، مما يثير اشمئزازك ، ويرفع عندك ضغط الدم وتجد نفسك – رغماً عنك – تنفعل وتحتد وتخرج عن طبيعتك الهادئة المتزنة .
طبعاً هذا كله بالإضافة إلى حالة من سوء الأدب والخلق والشتائم وما وراءها من حالة غل رهيبة تبدو على لسان معارضي الإخوان .. كلها أشياء تبدو ظاهرة واضحة للعيان في كثير من الحوارات ، ولكن ....
أقول أنه رغم خروج الناس عن دائرة المنطق والمعقول في كثير من المسائل ، إلا أن ذلك كله لا يشفع لنا نحن الإخوان أبداً ، لأن نصل إلى هذه الحالة من العصبية والحدة في النقاش معهم لأسباب كثيرة أوردها في النقاط التالية :
أولاً : هذه هي النوعية التي خلفها عهد الفاسد المخلوع :
السبب الأول ، أنك ينبغى أن تشفق على هؤلاء الخفاف ، وسبق أن ذكرت توصيفاً كاملاً لما أرى المصريين عليه في مقالة " شعب محتاج رئيس تاني " والتي نقلت فيها معنى قول الله عز وجل " فاستخف قومه فأطاعوه " ، فليرجع إليها .
إنها العقليات الخفيفة والنفسيات الهشة التي خلفها لنا النظام السابق على مدار مناهج تعليم وتربية وتثقيف طيلة ثلاثين سنة عجاف من كل القيم الأخلاقية والتربوية ، فهم ضحايا وليسوا جناة ، وما هكذا يعامل الضحايا .
ثانياً : حسم كثير من القضايا لن يكون بالنقاش والجدال :
ثم إن كثيراً من القضايا المطروحة والتي نتناقش فيها مع الناس خاصة ما يتعلق بإنجازات الرئيس والحكومة على الأرض ليست من قبيل ما يحسم بنقاشات أو حوارات ، بل هي مما لا يحسمه سوى ما يرى بالعين وفي الواقع من منتج محسوس ملموس ، كما يفعل الدكتور باسم عودة في رغيف الخبز والبنزين والسولار والمواد التموينية .
قد تحتاج لنقاشات وحوارات لتوضيح ما لا يلمسه الناس في واقعهم الحياتي رغم أنه إنجاز رائع وحيوي وجبار مثلما يفعل الرائع الدكتور أسامة ياسين وزير الشباب، حيث أنه ينجز في بيئة لا تمس إلا شريحة بعينها ، وعاشت مهمشة بعيدة عن الوزارة ، ولا يرى الناس أثر إنجازه مباشرة في واقعهم اليومي ، فحتى تظهر وتوضح للناس قيمة ما يفعله الدكتور أسامة فعلاً تحتاج لنقاشات وتوضيحات ...
وليس هذا طبيعة أغلب ما يثيره الناس بنقاشاتهم عن همومهم اليومية كانقطاع الكهرباء أو ارتفاع الأسعار أو مستوى الصحة والتعليم أو أزمات مفتعلة كالبنزين أو السولار أو تعدي القضاة على السلطة التنفيذية أو انتهاكهم وعدم عدالتهم في قضايا كقضية الشيخ عبد الله بدر أو مجموعة أحرار أو الضباط الملتحين .. هذه قضايا لن تحل بحوارات ولا نقاشات ، أياً كان الفصيل الذي تحاوره ، بل تحل بإنتاج وإنجاز ملموس تراه العين ولا تخطئه .
ثالثاً : لا تنسي مهمتك الأصيلة ... نحن دعاة ...
أهم من ذلك كله وهو بيت القصيد والذي كتبت المقالة من أجله أنه لا بنبغى أن تنسى أخي الكريم أنك صاحب رسالة ومهمة ، تأخذ الناس من مناكبهم لتحجزهم عن النار ، لك مهمة اساسية واضحة في هذه الحياة الدنيا " كنتم خير امة أخرجت للناس ..... " ، " فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم " ، " من دعا إلى هدى .... " ، " من سن في الإسلام سنة حسنة .... " ، " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ، " الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " ..
كل آية أو حديث أو أثر مما ذكرته يوضح المهمة والرسالة التي نحملها ، فإذا ذهب بك النقاش أخي الحبيب إلى موطن يبعد بك عن هذه الرسالة وعن حقيقتها ومعناها ، فلتراجع نفسك ولتتوقف عن النقاش والجدال ، فأنت داعٍ إلى الله وهادٍ للناس ودال لهم إلى طريق الخير والفلاح . واستعن بقول رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم : " أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق " .
أنت إذاً طبيب نفوس تنظر لبعيد ، ولا تهتم بما تحت رجلك ، لا تقدم الموقف العاجل على الهدف البعيد الذي تثابر من أجله ، وهو دخولك أنت ومن تحب الجنة ، فلتصبر على سوء أخلاقهم لتدخلهم الجنة .. هذه هي رسالتك .
رابعاً : كسب القلوب مقدم على كسب المواقف :
وعندنا في الإخوان قاعدة ذهبية تربوية إيمانية ، وهي من المعينات على التحقق والتخلق بصفات صاحب الرسالة ، أن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف .
حالات محدودة ضيقة يمكنك فيها أن تستثني من هذه القاعدة ، كأن تكون في حوار إعلامي مع معاندٍ غير منصف ، يرفع صوته ويثير الشبهات ليخدع العامة والمشاهدين ، حينها لك أن تخرج من هذه القاعدة وتفحمه بما تستطيع ، وتلجمه بما تملك من الحق والهدى والرؤية ، حتى لا يفتن الآلاف أو الملايين بقوله .
أما في نقاشاتك مع أهلك وأقاربك وذويك ، فلا يهم أن تنتصر لرأيك ، دعه يخرج بلا خسائر نفسية تشوه علاقته بك ، مقابل أن يبقى من الود بينكما ما يسمح لك بأن تدله على الحق والهدى والخير وتقربه من الله عز وجل بدلالته على ربه وتعريفه بما يحب ويرضى وتعرفه بسنة نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم .
واذكر ما فعله أستاذنا البنا رحمه الله حين كان يخطب فاستوقفه أحد المستمعين بأن الحديث الذي يذكره ضعيف ، فشكره الإمام وأكمل خطبته ، ثم دعاه بعد الخطبة وأطلعه على ما يثبت صحة الحديث ، فتعجب الرجل وقال له ولم لم ترد علي أثناء الخطبة ، فقال له : لأن كسب القلوب عندنا أهم من كسب المواقف ، فلم يرد الإمام رحمه الله أن يكسر قلبه أو يحرجه أمام الناس ( خاصة وإثبات صحة الحديث أو ضعفه ليست ضرورة في الخطبة وموضوعها هو الأهم فليس هذا من كتمان العلم ) ، وكان أن كسب الإمام قلبه واضاف أخاً جديدا لدعوة الإخوان .
خامساً : ما كان الرفق في شئ إلا زانه :
وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة ومتنوعة ولو أحصيناها بمعانيها ومضامينها لأخذت منا مجلدات :
منها قوله صلى الله عليه وسلم : " ما كان الرفق في شئ إلا زانه ، ولا نزع من شئ إلا شانه " رواه مسلم ( 4698 ، وقال عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة ) رواه مسلم ( 24 ) .
وفي الأدب المفرد للبخاري : " لا يكون الخرق في شيء إلا شانه إن الله رفيق يحب الرفق " .
وفي شعب الإيمان للبيهقي : " الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، خذوا بالناس ما تيسر ، إن المؤمنين قوم رفقاء رحماء " .
سادساً : متى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفراد :
أما غضبه صلى الله عليه وسلم حين تنتهك محارم الله ، فهو غضب من الفعل ، وأزعم أنه لم يصحبه رد فعل غاضب إزاء المنتهك أو العاصي .
وما قام صلى الله عليه وسلم برد الفعل الغاضب يوماً أبداً نتيجة اختلاف في رأي ، ولا تقصير في أداء ، ولا حتى خطأ في فعل ، ولا معصية ، لم يحتد قط صلى الله عليه وسلم أو يتمعر وجهه لصحابي أو ينهره أو يزجره - أزعم - إلا عندما انتهكت قيمة الأخوة .
وخذوا هذه الأمثلة من نوعية المخالفات ورد فعل النبي صلى الله عليه وسلم إزاءها :
خذ عندك الثلاثة الذين خلفوا ، كان أقسى رد فعل له صلى الله عليه وسلم ، بخلاف التأديب الرباني الذي هو بأمر وتكليف من الله متمثل في المقاطعة ، أقول كان أقسى رد فعل له صلى الله عليه وسلم أنه تبسم تبسم المغضب ، خذ عندك الأعرابي الذي بال في المسجد ، ورد فعله صلى الله عليه وسلم من التعليم والتأديب والكلام برفق معلوم بالضرورة .
خذ عندك الشاب الذي استأذنه في الزنا ، وكيف حاوره بالعقل والمنطق ثم دعا له ومسح صدره ، انظر له صلى الله عليه وسلم وهو يرد على استنكار عمر رضي الله عنه بسبب صلاته على من زنت ثم تابت وأقيم عليها الحد حين يقول : " لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم " .
وانظر له صلى الله عليه وسلم في موقف حاطب بن أبى بلتعة عندما أرسل لكفار قريش ببعض معلومات يضع بها عندهم يداً ، وهو ما يمكنك أن تقول على نظيره في زمننا هذا إن صدر عن من هم في صفنا " خيانة عظمى " ، إذا به صلى الله عليه وسلم بعد أن يسأله ويستوضح منه الفعل ويقر به حاطب رضي الله عنه .. إذا برسولنا صلى الله عليه وسلم يقول لعمر رضي الله عنه وهو يستأذنه بضرب عنقه ويسميه منافقاً : " إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .
لن تجد في السيرة سوى مثيل هذا من الرفق والحلم والأناة .. المرات التي غضب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزن وعلم عنه غضب أو رد فعل يحمل معنى الزجر لمن أمامه كانت عند انتهاك قيمة الأخوة عندما عير صحابي أخاه بأنه ابن السوداء ، حينها غضب النبي الكريم الحليم صلى الله عليه وسلم ، والحديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ساببت رجلاً فعيرته بأمه ، فقال لي النبي صلي الله عليه وسلم ( يا أبا ذر أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم ( .
ومثلها حين تداعي المهاجرون والأنصار بصيغتي يا للمهاجرون ويا للأنصار بصيحات الفتنة بينهم ، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن غضب وقال : " أبدعوى الجاهلية وأن بين أظهركم " وقال صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة " .
وكذلك عندما اغتيب عنده الصديق رضي الله عنه ، لانتهاك قيمة الأخوة بمعصية الغيبة ، ولانتهاك قدر الصديق ومكانته ، وهي منقبة للصديق أبي بكر رضي الله عنه .
ولنا فيه صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة والصالحة حيث لم ير الناس منه إلا الطيب من القول وحسن الخلق وهكذا فلنكون ..
--------------

