* د/ ياسر علي

كان تلميذا لم يتعد عمره ثلاث عشرة سنة حيث كان يري المظاهرات التي كانت تجوب البلاد في أعقاب ثورة‏1919‏ وكان كغيره من طلاب الحركة الوطنية المصرية يشترك في هذه المظاهرات‏,‏

 بشعور فياض متدفق حتي أنه انتفض بعد أن سمع ما أفرزته وتوصلت إليه لجنة ملنر وإجماع الأمة المصرية علي مقاطعتها والوقوف ضدها حيث نظم الشاب حسن البنا قصيدة طويلة بدأها بقوله

 يا ملنر ارجع ثم سل وفدا بباريس أقام

 وارجع لقومك قل لهم لا تخدعوهم يا لئام

 اتسمت الوطنية في شخصية الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله والذي نعيش في ظلال ذكري استشهاده- فبراير1949- بملامح تمثلت في حب بلده والانتماء لقضاياه والتفاعل مع هذه القضية وجدانيا وحركيا حيث بدأت بوادر الانخراط في العمل الوطني لديه كما قلنا إبان ثورة1919 م وأيضا في معايشته وتقديره لرموز العمل الوطني في ذلك الوقت حيث يقول في مذكراته بمناسبة وفاة الزعيم الوطني الكبير محمد فريد في15 نوفمبر1919( ولا زلت أذكر يوم دخل علينا أستاذنا محمد خلف نوح والدموع تترقرق في عينيه فسألناه الخبر فقال: مات اليوم فريد بك. وأخذ يحدثنا عن سيرته, وكفاحه وجهاده في سبيل الوطن حتي أبكانا جميعا, وأوحت إلي هذه الذكري ببضعة أبيات ما زلت أحفظ مطلعها وشطرا آخر:

 أفريد نم بالأمن والإيمان........ أفريد لا تجزع علي الأوطان

 هذه الاشعار الوطنية وغيرها كانت سجلا لمعايشة الرجل للقضية الوطنية في بواكير حياته وقد جمعها في ديوان كبير لم يشأ القدر له ان يري النور.

 وبعد تأسيسه لجمعية الاخوان المسلمين في سنة1928 تعاظم اهتمامه بقضية بلده ولم يجد اي تناقض بين انتمائه لفكرة الوحدة الاسلامية كما تحدثنا عنها في المقال السابق وبين العمل الدؤوب والمخلص لقضية بلده والعمل المتواصل من اجل تحرير الوطن من كل سلطان اجنبي والعمل علي ضمان استقلاله السياسي والاقتصادي.

 ولأنه كان يؤمن بأن قضية تقدم وازدهار مصر والخروج بها الي افاق حضارية جديدة, هي القضية المركزية الكبري التي شغلت اهتمام جمهرة المفكرين ورواد الإصلاح مع تباين أفكارهم ومقاصدهم, ولان هذه القضية قد دفعت الجميع علي المشاركة في عمليات الهدم والبناء التي شهدتها مصر وغيرها من الدول العربية والاسلامية في ذلك الوقت, فقد انفتح رحمه الله علي كل هذه التجارب والافكار تاريخيا وجغرافيا .

ويمكن ان نقول إن مجموعة من القضايا الأساسية التي لا تنفك إحداها عن الأخري قد نشأت وتبلورت في رؤية الامام البنا للقضية الوطنية وهي:

 (1) قضية بناء الدولة المستقلة الحديثة أو العصرية في مجتمع إسلامي يعاني من آثار التدهور والانحطاط وفي الوقت نفسه يئن تحت وطأة السيطرة والتسلط الأوروبي.

 (2) قضية اختيار أو تطوير نظام سياسي كفء يتولي إدارة شئون الحياة العامة في المجتمع.

 (3) قضية الهوية وتحديد إطار الانتماء السياسي وأساس رابطة الولاء بين الفرد والدولة التي ينتمي إليها.

 (4) قضية التغيير وكيفية تحقيق الإصلاح المنشود علي نحو عملي.

 وفي سياق دعم رؤيته فقد جاهد البنا جهادا كبيرا ليؤكد شمول الإسلام,والذي كان مقررا وثابتا طوال ثلاثة عشر قرنا أي قبل دخول الاستعمار إلي المشرق الاسلامي, فالإسلام يشمل الحياة كلها بتشريعه وتوجيهه: رأسيا منذ يولد الإنسان حتي يتوفاه الله,وأفقيا حيث يوجه الإسلام المسلم في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية من أحكام الوضوء إلي إمامة الحكم وعلاقات السلم والحرب.

 وقد كانت نتيجة هذا هي وجود قاعدة ضخمة تؤمن بهذا الشمول وتنادي بالإسلام عقيدة وشريعة ودينا ودولة في كل أقطار الإسلام, وتراجع كثيرين من أصحاب الافكار الاخري والذين آمنوا به في ظل وطأة التغريب وأدي ذلك الي بروز تيار الصحوة علي الساحة الفكرية والسياسية بصورة مؤثرة والذي سعي البنا إلي توظيفه لصالح القضية الوطنية بكل قوة.

 كما عمل البنا علي إيقاظ الوعي والشعور بفرضية إقامة العدل والحكم الرشيد إذ ان الغاية هي سعادة الانسان وتحقيق مراد الشريعة, فالغاية من تحرير الوطن ليست فقط طرد المستعمر وتحرير الوطن من نيره واستعباده وان كان ذلك هدفا في حد ذاته وإنما هو ايضا وسيلة لتحقيق هدف كبير هو أن تحقق الأمة ذاتها وتعيش بعقيدتها ولعقيدتها.

 ويذكر البنا ما يؤكد هذا في كثير من رسائله ومقالاته ومحاضراته حيث أسهب رحمه الله في الحديث حول أسس الحكم العادل الرشيد وضرورة إقامة دولة الحق والعدل..

 وفي سياق رؤيته رحمه الله لملامح إصلاح الدولة المصرية وموقفه من عمل الحكومات المتعاقبة والتي عاصرها البنا وتفاعل معها سياسيا واجتماعيا تأتي المطالب الخمسون التي وضعها حسن البنا والتي أرسلها لحكام الدول الإسلامية في رسالة نحو النور ومطالبتهم بتطبيق النظم المتفقة مع الهوية الثقافية والحضارية وإصلاح نظم الحكم مثالا مهما علي مدي انشغاله رحمه الله بقضية وطنه وتقدمه.

 وقد رفع المرشد حسن البنا خطابا موجزا بذلك الي الحكومة المصرية في ذلك الوقت و جاء في آخر هذا الخطاب بيان خمسين مطلبا من المطالب العملية لتحقيق الاصلاح, وقد اشتملت رؤيته للاصلاح في هذه الوثيقة علي عدة محاور في الجوانب السياسية والقضائية والإدارية وكذا الاجتماعية والعلمية وايضا في الاقتصادية.

 وساهم البنا كذلك وبشكل فاعل في قضية العمل الوطني من زاوية النضال الدستوري كما كان يسميه بمعني الحرص علي ممارسة الحقوق الدستورية والنضال من أجل أن يتمتع كل مصري بهذه الحقوق وشارك في الانتخابات البرلمانية في محاولتين لم تكللا بالنجاح, وذلك لأن البنا قد قبل بشكل صريح بمفهوم الحكم الدستوري النيابي واعتبره أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلي الإسلام ورأي أن تلك الصيغة إذا طبقت كما ينبغي تضمن تحقيق المبادئ الثلاثة التي يرتكز عليها نظام الحكم الرشيد وهي حسب تصوره مسئولية الحاكم ووحدة الأمة و احترام إرادتها.

 وأخيرا فإن البنا قد أسهب في التأكيد علي مفهوم وحدة السلطة بمعني عدم انقسامها إلي سلطة مدنية وأخري دينية,وذلك إيمانا منه بأن سلطة الحاكم في الدولة الإسلامية بعيدة كل البعد عن مفهوم السلطة الدينية الثيوقراطية, التي عرفتها أوروبا في عصورها الوسطي.

 رحم الله الرجل وأثابه علي اجتهاده خيرا.

  ــــــــــــــــ

نقلاً عن  الأهرام