د. محمد زويل 
يتشكل وعينا وفق المصادر التى ننهل من معينها، والعكوف على مصدر واحد أو مصادر متعددة ذات اتجاه واحد أو تنهل من نفس المعين الثقافى يبقينا فى أسر الجبرية وإن توهمنا أننا أحرار، ومن أراد أن يتحرر حريةً حقيقيةً فإن عليه أن يخرج من الصندوق وأن يسير فى الأرض فيرى المسائل من زوايا جديدة ويستشرف آفاقًا أوسع.
أخطر أنواع التزييف هو ذلك الذى تتوهم معه بأنك حر فى اختياراتك بينما لا تستطيع أن تختار إلا ما يرسم لك.. هذا النوع من التزييف يمارسه الإعلام ضد الجماهير فيعبئهم بمعلومات صحيحة أو خاطئة بشكل انتقائى وممنهج لصياغة وعيهم فى اتجاه محدد بما يخدم سياسات معينة.
هذا التزييف أخطر من الاستعباد الواضح المكشوف الذى يحكم فيه الطغاة بالحديد والنار؛ لأنه فى الحالة الثانية تكون الشعوب متنبهةً بأن هناك من يصادر حريتها فيكون ذلك مستفزًا ومحرضًا لها على الثورة، أما فى الحالة الأولى فتتوهم الشعوب أنها تملك الحرية الكاملة فى اتخاذ قراراتها وهى غير متنبهة لأثر المصادر التى تستقى منها معلوماتها فى تشكيل وعيها فى اتجاهات محددة.. كثيرًا ما نظن أننا مخيرون بينما نحن مسيرون فى مساحات كبيرة.. فالطفل ينشأ فى بيت أبويه فيشكل أبواه مصدر وعيه الأول ويشربانه قيمهم وسلوكياتهم، فينشأ كما عوده أبوه يوالى من والاه ويعادى من عاداه وهو يظن أنه حر فى قراراته وأنه اتخذها بمحض إرادته، ولو خلا مع نفسه فى ساعة صفاء لأدرك أنه يسير فى اتجاه حتمى دفعته إليه البيئة التى نشأ فيها، ولو قدر له أن ينشأ فى بيت تلك العائلة التى يعاديها أبوه لاتخذ نفس موقفها ولعادى أباه الذى يواليه الآن ولتغير موقفه!.
وما ينطبق على حالة الفرد ينطبق على حالة الشعوب، فنحن نظن أن الشعب الأمريكى مثلاً ينعم بحرية مطلقة، وأن للمواطن حق التفكير وتقرير اختياره دون قيود، لكن حقيقة الأمر أن حرية الشعب الأمريكى له سقف معلوم لا يستطيع تجاوزه، لكن المواطن الأمريكى لا يشعر بأن هناك من يتحكم فى إرادته فهو حين يتوجه إلى صندوق الاقتراع ويختار أحد المرشحين الديمقراطى أو الجمهورى لا يدرى بأنه مأسور داخل صندوق، وأن الدنيا لا تنتهى عند هذين المرشحين وحدهما بل كان يفترض أن تكون هناك خيارات أوسع، وأن ما يظن أنه قراره الذاتى الحر ما هو إلا نتاج الضخ الإعلامى المتواصل ليلاً ونهارًا من ماكينات الإعلام الضخمة التى تصب فى عقله الباطن وتسرب إلى لا شعوره ما تريده من معلومات منتقاة وتخفى عنه ما لا يتناسب مع أجندتها، إنه فى حقيقة الأمر يفكر تبعًا لما تمليه عليه السى إن إن أو الفوكس نيوز.
ومقتضى الحرية هو أن يخرج من الصندوق وأن يستكشف آفاقًا جديدةً وأن يسير فى الأرض ليرى الحقائق التى لا تعرضها هذه الوسائل الإعلامية الضخمة التى تقوم بفعل السحر فى عقل ووجدان المشاهد الذى يصل إدراكه أحيانًا إلى حد البلاهة.
فى عالمنا العربى نضرب مثالاً قناة الجزيرة، فهذه الآلة الدعائية الضخمة تمارس توجيهًا لوعى الجماهير فى الاتجاه الذى يخدم الخط السياسى للجهة الممولة لها، فكثيرًا ما نفكر ونقرر ونرتب أولوياتنا كما ترسم لنا قناة الجزيرة، مثلاً هى التى قررت متى وأين وفى ظل أى ظروف وسياق "إثارة قضية مقتل ياسر عرفات"، فى الوقت الذى رأته وبالطريقة التى تريد لنا أن نراها!!، فلم يسعنا إلا أن نتلقاه تلقيًا سلبيًا ونسارع إلى إصدار ردود الفعل ظانين أننا نفعل ذلك بخالص حريتنا بينما حقيقة الأمر أننا لم نخرج قيد أنملة عن الخط الذى رسمته الحسابات السياسية لقناة الجزيرة.
إن تركيز هذه الآلة الدعائية الضخمة على موضوع محدد وتعمد إثارته وتضخيمه يشعرنا بأهميته ويضعه فى دائرة أولوياتنا، ونحن نظن أننا أحرار فى اختيارنا، ولكن لو لم يثره الإعلام لما تنبهنا له.. 
إن هذا النوع من تزييف الوعى خبيث؛ لأنه يخدع الجمهور فيغرس فيه أن هذه هى قناعاته الذاتية التى يجب أن يتحمس لها ويدافع عنها وربما يموت من أجلها، بينما قد حول الجماهير إلى أبواق تردد ما يريده منها..
ليست الحرية فى أن تتخلص الشعوب من الأنظمة التى تحكمها بالحديد والنار وحسب، بل من مقتضيات الحرية كذلك أن تتخلص الشعوب من الأسر المتمثل فى الآلة الدعائية الضخمة التى تواصل حشو دماغ الإنسان ليلاً ونهارًا دون أن تسمح له بساعة صفاء يخلو فيها مع نفسه ليتخذ قراره بإرادته الخالصة.
إن من مقتضيات الحرية أن تتاح أمام الشعوب فرص متساوية للاستماع إلى مختلف الألوان والاتجاهات، ونصيحتى للأفراد حتى يكونوا مستقلين فى تفكيرهم أن يعددوا مصادر معلوماتهم، وألا يرتهنوا إلى مصدر واحد مهما كانت مصداقيته حتى لا يقعوا فى أسره، فتصادر حريتهم وهم لا يشعرون. 
___________
[email protected] 


 
 
					     
 
					     
									 
									 
									