في مشهد عبثي يلخص مأساة القطاع الصحي في "الجمهورية الجديدة"، تحول قسم الاستقبال بمستشفى الكرنك الدولي بالأقصر (أحد صروح التأمين الصحي الشامل) إلى ساحة عراك، ليس لإنقاذ حياة مريض، بل لمنع مواطن من توثيق "جريمة" خلو المستشفى من الأطباء. الواقعة التي جرت تفاصيلها في ديسمبر 2025، تعيد تسليط الضوء على السياسة المتبعة في المستشفيات الحكومية: "تغييب الطبيب.. وتكميم المواطن".

 

التفاصيل: استغاثة تحولت إلى "خناقة"

 

بدأت القصة بدخول مواطن يحمل مريضًا في حالة حرجة إلى طوارئ مستشفى الكرنك، ليفاجأ بما اعتاد عليه أهالي الأقصر مؤخرًا: ممرات خاوية، ومكاتب تمريض بلا طاقم، وغياب تام للأطباء المقيمين أو الاستشاريين. ومع تصاعد أنين المريض وعدم استجابة أحد، أخرج المواطن هاتفه لتوثيق اللحظة وبث استغاثة مباشرة.

 

لكن الاستجابة جاءت سريعة من الجهة الخطأ؛ إذ انتفض أفراد الأمن الإداري –الذين غابوا عن تنظيم الدخول– لمنع التصوير بالقوة. تطور الأمر إلى مشادة حادة وتشابك بالأيدي، حيث اعتبرت إدارة المستشفى أن "تصوير الكراسي الفارغة" جريمة أشد من "ترك المريض يتألم". وانتهى المشهد بمنع المواطن من التصوير، وربما إجباره على مسح ما صوره، بينما ظل السؤال الأساسي معلقًا: أين كان الأطباء؟

 

مستشفيات الأقصر.. مبانٍ فخمة وخدمة "على الورق"

 

هذه الواقعة ليست حادثًا فرديًا، بل عرض لمرض مزمن يضرب منظومة الصحة في الأقصر. فرغم المليارات التي أُنفقت على تجديد الواجهات وشراء الأجهزة ضمن منظومة التأمين الشامل، إلا أن "العنصر البشري" يظل الحلقة المفقودة. شكاوى الأهالي لا تتوقف من أن المستشفيات تتحول ليلاً إلى "مبانٍ مهجورة" إلا من بعض الممرضين وأفراد الأمن، بينما "يزوغ" الأطباء إلى عياداتهم الخاصة أو يكتفون بالتواجد "على الورق" في جداول النوبتجيات.

 

وقد سبق لمحافظ الأقصر أن أجرى جولات ليلية مفاجئة كشفت كوارث مماثلة في مستشفيات أخرى، لكن يبدو أن سياسة "الردع" غائبة، أو أن نفوذ "مافيا الإهمال" أقوى من قرارات المحافظ.

 

سياسة "تكسير الكاميرات".. التستر على الفشل

 

اللافت في واقعة "الكرنك" هو الإصرار المستميت على منع التصوير تحت ذريعة "الخصوصية" أو "التعليمات الأمنية". ويرى مراقبون أن هذه التعليمات باتت تُستخدم كـ "حصانة" للإهمال؛ فالمسؤولون يدركون أن "الصورة" هي الدليل الوحيد الذي لا يمكن تزويره أو التلاعب به في التقارير الرسمية.

 

 

إن منع المواطن من توثيق غياب الخدمة هو "إغلاق لمنفذ الشكوى الوحيد" المتبقي له. فعندما تغيب الرقابة الرسمية، وتتواطأ الإدارة مع الغائبين، لا يتبقى للمريض سوى كاميرا هاتفه لفضح المسكوت عنه. وما حدث في "الكرنك" هو رسالة ترهيب لكل مواطن يفكر في كشف المستور: "سنتركك تموت.. وسنضربك إذا اشتكيت".

 

الخلاصة: تضع هذه الواقعة هيئة الرعاية الصحية ووزارة الصحة أمام مسؤولياتهما؛ فإما الاعتراف بالعجز عن توفير أطباء ومحاسبة المقصرين، أو الاستمرار في سياسة "دفن الرؤوس في الرمال" وملاحقة المواطنين الذين يرفضون الموت صمتًا.