في لحظة تاريخية شديدة القسوة، تتواصل فيها حرب الإبادة على غزة وسط عجز دولي وانسداد سياسي كامل، جاءت تصريحات رئيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بالخارج خالد مشعل لموقع “دروب سايت نيوز” الأمريكي كمبادرة سياسية محسوبة، لا كموقف ارتجالي أو تنازل عن الثوابت. جوهر هذه التصريحات لم يكن طلب ودّ الإدارة الأمريكية، بل محاولة كسر الحلقة المغلقة التي تُدار فيها الحرب: قوة عسكرية بلا أفق سياسي، وصمت دولي يتيح استمرار المجازر.

 

مشعل قدّم خطابا مختلفا عن اللغة التعبوية المعتادة، موجّهًا حديثه مباشرة إلى مركز الثقل الحقيقي في قرار الحرب؛ أي الولايات المتحدة. هذا التحول في المخاطبة لا يعني الثقة بواشنطن، بل الاعتراف بواقع النفوذ، ومحاولة الضغط عليه من داخل منظومته السياسية والإعلامية، عبر الرأي العام والنخب المؤثرة. وهو خطاب لم يتضمن أي اعتراف بشرعية الاحتلال، ولا تخليًا عن حق المقاومة، بل أكد الالتزام بوقف إطلاق النار مقابل التزام الاحتلال، في إطار معادلة سياسية واضحة.

 

أما المقارنة التي أثارت الجدل، والمتعلقة بتعامل واشنطن مع قوى كانت مصنّفة “إرهابية”، فهي ليست تبريرًا ولا استجداءً، بل تفكيك لخطاب الهيمنة الأمريكي، وكشف لانتقائيته.

 

مشعل لم يقل إن حماس تريد أن تكون “مقبولة”، بل قال إن استثناء الفلسطينيين من البراغماتية الأمريكية يكشف أن المشكلة ليست في التصنيف، بل في الانحياز السياسي المطلق لـ”إسرائيل”.

 

الجانب الأهم في هذه التصريحات أنها جاءت من موقع قوة لا ضعف. فبعد فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، وبعد تحوّل الحرب إلى عبء أخلاقي وسياسي على دولة الاحتلال الإسرائيلي، تصبح المناورة السياسية امتدادا طبيعيا للصمود الميداني، لا نقيضا له. المقاومة التي تعرف متى تقاتل، يجب أن تعرف أيضا متى تناور، دون أن تتخلى عن أوراق قوتها.

 

الهجوم على خطاب مشعل بوصفه “تنازلا” يتجاهل سؤال اللحظة: ما البديل؟ استمرار الإبادة بلا أي محاولة لاختراق الجدار السياسي؟! أم اختبار كل نافذة ممكنة دون التفريط بالثوابت؟

 

إن مخاطبة واشنطن لا تعني الرهان عليها، بل محاولة تحميلها مسؤولية سياسية أمام العالم، وإرباك روايتها التي تبرر الحرب بلا نهاية.

 

في المحصلة، تصريحات مشعل ليست مقامرة مجانية، بل خطوة محسوبة في سياق حرب طويلة، يُعاد فيها تعريف أدوات الصراع.

 

الدهاء السياسي هنا ليس ضعفًا، بل تعبير عن وعي بالتحولات، وسعي لاستخدام كل أشكال القوة: العسكرية والسياسية والإعلامية، لخدمة هدف واحد: وقف الإبادة والمحرقة في عزة، والحيلولة دون عودتها، وتعزيز الموقع الفلسطيني، في زمن تندر فيه الخيارات؛ نتيجة التواطؤ الدولي مع الاحتلال في ظل صمت وعجز عربي وإسلامي!