في الوقت الذي يطحن فيه الغلاء عظام المواطنين، وتنتظر الجماهير بفرغ الصبر انتهاء كابوس "صندوق النقد الدولي" المزعوم بحلول عام 2026، تواصل حكومة الانقلاب سياسة "إدمان الاستدانة" بشراهة لا تتوقف، وكأن مستقبل هذا الوطن قد اختُزل في البحث عن "دائن جديد" يسد عجز السياسات الاقتصادية الفاشلة التي دمرت العملة المحلية وأفقرت الشعب.
فبدلاً من البحث عن حلول إنتاجية حقيقية، أعلنت الحكومة عن اعتزامها إصدار سندات "ساموراي" يابانية جديدة بقيمة تعادل 500 مليون دولار، مدعومة بضمان جزئي من البنك الإفريقي للتنمية، بالتزامن مع خطط لطرح سندات دولية أخرى بالدولار واليورو. هذه الخطوات تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام الحالي لا يملك أي رؤية تنموية، بل يعتمد منهجية "تدوير الديون" و"ترقيع" الموازنة العامة بقروض جديدة لسداد فوائد قروض قديمة، في حلقة مفرغة وشيطانية تلتهم موارد الدولة، وتضع السيادة الاقتصادية للبلاد في مهب الريح، محولةً مصر إلى رهينة دائمة في أيدي المؤسسات المالية العالمية والدائنين الأجانب.
فخ "الساموراي" و"الباندا".. تنويع مصادر "التسول" لا التمويل
تروج الآلة الإعلامية للنظام لسندات "الساموراي" (المقومة بالين الياباني) وسندات "الباندا" (المقومة باليوان الصيني) باعتبارها "إنجازاً عبقرياً" وفتحاً مبيناً في مجال تنويع مصادر التمويل، لكن الخبراء الاقتصاديين يرون في هذه الخطوات كارثة مؤجلة وقنبلة موقوتة. فالاستدانة بعملات متعددة في ظل اضطراب سوق الصرف العالمي وعدم استقرار العملة المحلية، تعني تعريض الاقتصاد لمخاطر مركبة قد تعجز الدولة عن سدادها مستقبلاً، خاصة أن هذه القروض لا تُنفق على مصانع تدر دخلاً، بل تذهب لسد العجز.
وفي هذا السياق، حذر الدكتور عبد المنعم السيد، مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، من أن الحكومة تختار الطريق السهل المدمر، قائلاً بوضوح: "الحكومة تلجأ للحلول السهلة والمسكنات المؤقتة بدلاً من الجراحة الحقيقية. اللجوء لسندات الساموراي هو محاولة يائسة لتوفير نقد أجنبي سريع لسد الفجوة التمويلية العاجلة، لكنه يرفع فاتورة خدمة الدين مستقبلاً بشكل جنوني. نحن عملياً نستبدل ديناً بدين، ونورط الاقتصاد في التزامات بعملات متعددة دون وجود تدفقات نقدية حقيقية من الإنتاج أو التصدير تغطي هذه الالتزامات عند استحقاقها".
وعلى صعيد آخر، تتذرع الحكومة بأن حصيلة هذه السندات ستوجه لـ "مشروعات خضراء" وتنمية مستدامة، وهو ما شككت فيه الدكتورة علياء المهدي، العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي رأت أن المسميات البراقة لا تخفي حقيقة الأزمة، مؤكدة: "المشكلة ليست في مسميات السندات (خضراء أو زرقاء)، بل في غياب الشفافية الكاملة في أوجه الصرف. الحكومة تقترض لتمويل مشاريع بنية تحتية ومبانٍ لا تدر عائداً دولارياً سريعاً، مما يضغط بشدة على العملة المحلية. استمرار هذه السياسة تحت لافتة 'التمويل الأخضر' يعني أننا نزرع 'ديوناً مستدامة' وليست تنمية، وسيحصد ثمارها المرة الأجيال القادمة فقراً وعوزاً".
أكذوبة "الاستقلال عن الصندوق" في 2026
يحاول مسؤولو الانقلاب تسويق "وهم" كبير للشعب مفاده أن عام 2026 سيكون عام "التحرر" من قيود صندوق النقد الدولي، لكن الأرقام والواقع يفضحان هذه الدعاية السوداء. فالدولة التي تخطط لطرح سندات دولية بمليارات الدولارات في نفس العام الذي تدعي فيه التحرر، هي دولة غارقة حتى أذنيها في التبعية المالية، ولا تملك قرارها الاقتصادي.
وفي تفنيده لهذه المزاعم، قال الخبير الاقتصادي هاني جنينة: "الحديث عن الاستغناء عن صندوق النقد الدولي في ظل استمرار الفجوة التمويلية الضخمة هو نوع من الخيال السياسي. مصر تحتاج لسد فجوة سنوية بمليارات الدولارات، وإصدار سندات جديدة يؤكد أننا ما زلنا في غرفة الإنعاش. الاعتماد على سياسة 'الديون الدوارة' يعني أننا سنظل ندور في فلك المؤسسات الدولية، سواء كان الصندوق أو غيره، طالما لم نغير هيكل الاقتصاد من ريعي إلى إنتاجي".
ويكمل هذا المشهد القاتم غياب أي رقابة حقيقية على قرارات الاستدانة، حيث تحولت السلطة التشريعية إلى مجرد "بصمجي" يوافق على القروض دون نقاش. وهو ما أشار إليه الخبير الاقتصادي الدكتور مدحت نافع، منتقداً بشدة هذا الانفلات، حيث قال: "الأزمة تكمن في أن الحكومة تقترض بقرارات فردية دون دراسات جدوى حقيقية لقدرة الاقتصاد على السداد. البرلمان تحول لختم موافقة على أي قرض، مما جعل سقف الدين الخارجي ينفجر وتجاوز الحدود الآمنة بمراحل. نحن بحاجة لوقفة جادة ومحاسبة شاملة لسياسات الاقتراض العشوائي قبل أن نصل لمرحلة التعثر الكامل وإشهار الإفلاس السيادي".
مقامرة "السندات الدولية".. بيع المستقبل في المزاد
لم تكتفِ الحكومة بسندات "الساموراي"، بل كشفت عن تخطيطها لطرح سندات دولية بالدولار تتراوح قيمتها بين 1.5 و2 مليار دولار خلال النصف الأول من العام المقبل. هذه الخطوة تأتي في وقت تشهد فيه أسواق المال العالمية ارتفاعاً في أسعار الفائدة، مما يعني أن مصر ستقترض بتكلفة باهظة جداً ("فائدة انتحارية") سيدفع ثمنها المواطن من صحته وتعليمه وخدماته الأساسية.
وفي تحليله لهذا التوجه الخطير، وصف الخبير المالي وائل زيادة الأمر بأنه مسار انتحاري، موضحاً: "تكلفة الاقتراض من الأسواق الدولية بالنسبة للاقتصادات الناشئة حالياً باهظة جداً وتصل لأرقام مزدوجة. الحكومة عملياً 'تشتري الوقت' بأسعار فائدة مرتفعة للغاية، مما يلتهم أكثر من نصف الموازنة العامة للدولة في بند الفوائد فقط. هذا النزيف المستمر يقلص مخصصات الدعم والصحة والتعليم، ويحول الدولة تدريجياً إلى مجرد 'محصل ضرائب' يعمل بالسخرة لصالح الدائنين الأجانب وحملة السندات".
إن إصرار النظام على هذا النهج يكشف بوضوح أن "الجمهورية الجديدة" التي يبشرون بها ليست سوى "جمهورية للديون"، تُبنى قصورها من أموال القروض، بينما يُترك الشعب ليدفع الفاتورة من حاضره ومستقبله، في جريمة اقتصادية متكاملة الأركان لا تسقط بالتقادم.

