تسريبات منصة “شومريم” الإسرائيلية عن أبحاث اللواء رومان غوفرمان، رئيس الموساد الحالي، تفتح نافذة نادرة على عقليات التخطيط في قمة الهرم الأمني الإسرائيلي، وعلى تصورات صادمة تتجاوز الخطاب الرسمي حول “منع الانتشار النووي” في الشرق الأوسط.

 

جوهر الفكرة التي نُسبت لغوفرمان هو تصور هندسة “توازن نووي متعدد الأقطاب” عبر تسليح دول عربية مركزية برؤوس نووية إسرائيلية محدودة، لا لشيء إلا لإحكام الطوق على إيران، وإعادة تشكيل البيئة الإقليمية بما يخدم الهيمنة الإسرائيلية طويلة المدى.

 

مضمون طرح “يوم القيامة بالأمس”

 

بحث غوفرمان الأكاديمي الذي حمل عنوان “يوم القيامة بالأمس” قُدّم في كلية الأمن القومي الإسرائيلية عام 2019، في سياق دراسات عليا للنخب العسكرية والأمنية، وطرح فيه سيناريو غير تقليدي يقوم على تزويد مصر والسعودية وتركيا برؤوس نووية تكتيكية أو محدودة، تحت رقابة إسرائيلية ودولية مشددة. الهدف المعلن في هذا السيناريو هو خلق توازن استراتيجي إقليمي يحدّ من تقدّم إيران النووي، عبر إدخال لاعبين إقليميين آخرين إلى معادلة الردع، بحيث لا تبقى إسرائيل وحدها في مواجهة طهران.

 

المفارقة أن هذا التصور لا ينطلق من منطق “توزيع القوة” لصالح العرب، بل من حسابات إسرائيلية بحتة: نقل جزء من عبء المواجهة مع إيران إلى دول أخرى، مع إبقاء زمام التحكم والتقنية النووية في يد تل أبيب، بما يحوّل هذه الدول إلى “حرس نووي متقدم” يخدم المصلحة الإسرائيلية قبل أي اعتبار آخر.

 

لعبة الإيهام النووي والضغط على القوى الكبرى

 

السيناريو الذي يتخيله البحث يفترض أنه في عام 2025 قد يعلن رئيس وزراء إسرائيلي عن “منعطف استراتيجي” ردا على تطور نوعي في البرنامج النووي الإيراني، وأن تلجأ إسرائيل إلى التلويح – أو الإيهام – بأنها بصدد نشر أسلحة نووية في المنطقة عبر دول حليفة. الهدف من هذا التلويح ليس التسليح الفعلي فحسب، بل استخدام صدمة الإعلان لإجبار الولايات المتحدة وروسيا والصين على التدخل، خشية انفلات سباق نووي إقليمي خارج السيطرة.

 

بهذا المعنى، يتحول ملف “تسليح دول عربية نوويا” إلى أداة ابتزاز استراتيجي: إسرائيل تلوّح بتوسيع دائرة النووي إذا لم تتحرك القوى الكبرى لكبح إيران، أو لتثبيت ترتيبات أمنية إقليمية جديدة تُكرّس إسرائيل مركزا لنظام ردع متعدد الأطراف. هنا لا تعود القضية مجرد صراع ثنائي (إسرائيل–إيران)، بل مكبس ضغط على النظام الدولي نفسه، بإدخال الشرق الأوسط إلى قلب معادلات الأمن النووي العالمي.

 

تناقض صارخ مع الخطاب الإسرائيلي عن منع الانتشار

 

فكرة إشاعة رؤوس نووية إسرائيلية – ولو “محدودة وتحت رقابة” – في أيدي دول أخرى، تناقض جوهريا الخطاب الرسمي لتل أبيب الذي يرفض أي سلاح نووي في المنطقة، ويتذرع دائما بـ“الخطر الإيراني” لتبرير امتلاك الغموض النووي الإسرائيلي الحالي. هذا الطرح يكشف أن ما يهم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ليس مبدأ منع الانتشار في ذاته، بل منع امتلاك خصومها – تحديدا إيران – لقدرات تقيّد تفوقها النوعي.

 

اللافت أيضا أن الدول العربية المذكورة في السيناريو (مصر، السعودية، تركيا) هي دول تختلف علاقاتها مع إسرائيل وإيران، وبعضها يعيش توترات داخلية وإقليمية معقّدة، ما يجعل إدخال عامل نووي – حتى لو كان تحت “وصاية إسرائيلية” – وصفة لكارثة استراتيجية طويلة المدى. أي خلل في الأنظمة السياسية، أو تغيّر في التحالفات، أو اختراق استخباراتي، يمكن أن يحوّل هذه الترسانة إلى تهديد عالمي لا يمكن احتواؤه بسهولة.

 

دور رئيس الموساد بين التنفيذ وصنع السياسة

الورقة الأخرى التي شارك غوفرمان في إعدادها – والمتعلقة بالعلاقة بين القيادة العسكرية وصانع القرار السياسي – تنتهي إلى ضرورة أن يلعب القائد العسكري دورا مباشرا في توجيه السياسة، عبر الحوار الدائم مع القيادة السياسية، وبناء شبكة علاقات، والمبادرة بطرح خيارات عملية. هذا المنظور يبتعد عن الصورة التقليدية للأجهزة الأمنية كأدوات “تنفيذ” فقط، ويقترح أن تكون قيادة الموساد نفسها شريكا نشطا في صناعة الاستراتيجية، وليس مجرد منفذ لها.

 

إذا جُمعت هذه الخلفية النظرية مع الموقع الحالي لغوفرمان على رأس الموساد، تظهر تساؤلات مقلقة: هل سيكتفي بتطبيق سياسات يحددها المستوى السياسي، أم سيسعى لفرض تصورات “غير تقليدية” كتلك التي كتبها في أبحاثه؟ وهل يمكن أن تتحول أفكار مثل التلويح بتسليح دول عربية نوويا إلى أوراق حقيقية على طاولة صنع القرار، خاصة في ظل التصعيد المتواصل مع إيران ومحاولات إعادة هندسة المنطقة بعد الحروب الأخيرة؟

 

عقلية خطرة تتلاعب بمصير المنطقة والعالم

 

ما تكشفه أبحاث غوفرمان ليس مجرد تمرين أكاديمي معزول، بل نموذج لعقلية أمنية إسرائيلية مستعدة للعب بأخطر ملف على وجه الأرض – السلاح النووي – كأداة من أدوات المناورة السياسية والابتزاز الاستراتيجي، حتى لو كان الثمن فتح الباب أمام سباق تسلّح نووي عربي–إقليمي لا يمكن لأحد التنبؤ بعواقبه.

 

تقديم فكرة “توازن نووي متعدد الأقطاب” في الشرق الأوسط بوصفها وسيلة لاحتواء إيران يتجاهل أن المنطقة تعيش أصلا فوق حقل ألغام طائفي وسياسي وحروب أهلية وتدخلات خارجية، وأن إدخال السلاح النووي إلى هذه المعادلة – حتى تحت غطاء “رقابة مشددة” – يعني نقل العالم كله إلى حافة “يوم القيامة الحقيقي”، لا “يوم القيامة بالأمس” الذي يكتبه ضابط استخبارات في بحث نظري.

 

في ظل هذه العقلية، يصبح من الضروري قراءة كل خطوة إسرائيلية في الملف النووي والإقليمي بعين الشك واليقظة، لأن من يفكر بهذه الطريقة لا يرى في شعوب المنطقة سوى بيادق على رقعة شطرنج مصالحه، مهما كانت كلفة اللعبة على أمن البشر وحقهم في البقاء.