في الوقت الذي تحولت فيه الخرطوم والولايات السودانية إلى مسرح مفتوح لواحد من أعنف الصراعات في القرن الحادي والعشرين، يقف السودان اليوم عند مفترق طرق حاسم قد يحدد مصير الدولة برمتها.

فبينما تعيد المعارك الضارية في كردفان رسم خرائط السيطرة الميدانية لصالح المؤسسة العسكرية، برز متغير دولي مفاجئ تمثل في تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوضع ثقله الرئاسي لإنهاء ما وصفه بـ "الكارثة الإنسانية الأكبر"، مما أضفى ديناميكية جديدة على مشهد سياسي وعسكري بالغ التعقيد.

 

تحولات الميدان: كردفان نقطة ارتكاز استراتيجية

 

شهدت مسارح العمليات في شمال وغرب كردفان تحولاً نوعياً في موازين القوى العسكرية، حيث نفذت القوات المسلحة السودانية، مدعومة بتشكيلات "قوات درع السودان" والقوات المشتركة، عمليات هجومية واسعة النطاق اتسمت بالتنسيق العالي والكثافة النيرانية.

وتركزت هذه العمليات بشكل استراتيجي في محور "جبل أبو سنون" والمناطق المتاخمة له، وهي مناطق حاكمة جغرافياً وتعد شرياناً حيوياً للإمداد والتحرك.

 

وقد أسفرت هذه التحركات عن إلحاق خسائر ميدانية فادحة في صفوف قوات الدعم السريع، شملت تدمير آليات قتالية واستنزافاً للقوى البشرية، مما يعكس تطوراً في التكتيكات القتالية للجيش الساعي لتأمين ولايات الغرب ومنع فصلها عن المركز.

هذا التقدم الميداني لا يقرأ بمعزل عن السياسة؛ فهو يمنح المؤسسة العسكرية أوراق ضغط أقوى على طاولة أي مفاوضات محتملة، ويضع الطرف الآخر أمام خيارات صعبة مع تآكل مناطق سيطرته في هذه المحاور الحيوية.

 

"وعد ترامب": حراك دولي لإنهاء "الكارثة الأعنف"

 

على الصعيد الدولي، كسر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حالة الجمود الدبلوماسي التي أحاطت بالملف السوداني لشهور طويلة، معلناً عن انخراط أمريكي مباشر وعاجل لإنهاء الصراع.

وجاء هذا التحرك استجابةً لطلب مباشر من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال زيارته لواشنطن، مما يعكس تنسيقاً عالي المستوى بين واشنطن والرياض.

 

وقد استخدم ترامب لغة حاسمة في توصيفه للأزمة، معتبراً السودان "أكثر الأماكن عنفاً في العالم" وواصفاً ما يجري بأنه "أكبر كارثة إنسانية"، متعهداً باستخدام سلطاته الرئاسية لفرض الاستقرار.

وتتضمن الرؤية الدولية المطروحة تفعيل "الرباعية الدولية" (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر) للدفع نحو تسوية سياسية شاملة.

وتتمحور المقترحات الأولية حول فرض هدنة إنسانية طويلة الأمد تتراوح بين 3 إلى 9 أشهر، تهدف في المقام الأول إلى وقف "الفظائع" وتأمين ممرات آمنة للمساعدات، كخطوة أولى لبناء الثقة قبل الدخول في مفاوضات الحل النهائي.

 

الجبهة المدنية: ترحيب مشوب بالحذر وتطلعات للحل

 

تلقفت القوى السياسية والمدنية السودانية الإشارات الأمريكية بترحيب واسع، عكس رغبة الشارع السوداني في إنهاء الحرب بأي ثمن.

فقد اعتبر حزب الأمة القومي تصريحات ترامب "خطوة إيجابية" تصب في اتجاه إنهاء معاناة الشعب السوداني، مثمناً الدور السعودي ومبادرة الرباعية كخريطة طريق واقعية تبدأ بوقف إطلاق النار وتنتهي بعملية سياسية تعيد تأسيس الدولة على أسس العدالة والحرية.

 

وفي السياق ذاته، رحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة "صمود" بالزخم الدولي الجديد، معتبراً إياه دليلاً على عودة الاهتمام العالمي بالملف السوداني بعد فترة من النسيان.

وقد شدد التحالف على أن الأولوية القصوى يجب أن تكون لهدنة إنسانية عاجلة، محذراً في الوقت نفسه من القوى التي تسعى لإطالة أمد الحرب أو إعادة إنتاج النظام السابق عبر بوابة الفوضى.

كما انضمت الهيئات الحقوقية، مثل هيئة محامي دارفور والمجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات، إلى ركب المرحبين، معتبرة أن التدخل المباشر من البيت الأبيض قد يكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ المدنيين في الفاشر ومناطق النزاع الأخرى من انتهاكات جسيمة ترقى لجرائم الحرب.

 

بين الفرصة الأخيرة وخطر الانهيار

 

يواجه السودان اليوم لحظة مفصلية تاريخية؛ فبينما يحقق الجيش مكاسب ميدانية تعزز موقفه، يفتح التدخل الأمريكي المباشر نافذة نادرة للحل السياسي قد لا تتكرر. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في مدى التزام الأطراف المتحاربة بتحويل هذه التعهدات الدولية والمكاسب الميدانية إلى واقع سياسي ينهي معاناة الملايين، أو الانزلاق نحو سيناريوهات الفوضى الشاملة إذا ما فشلت هذه الفرصة الأخيرة في لجم آلة الحرب.