تكشف المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري عن مشهد انتخابي مضطرب يطغى عليه غياب المنافسة الحقيقية، وتفشي المال السياسي، واستبعاد مرشحي المعارضة، وتوسّع ظاهرة توريث المقاعد. ما رصدته «المؤسسة العربية لحقوق الإنسان» لا يشير فقط إلى عيوب مرحلية، بل إلى أزمة بنيوية تضرب جوهر العملية الانتخابية وتضع مستقبل المشاركة السياسية في مصر أمام علامات استفهام كبرى، في ظل تراجع الثقة الشعبية واتساع الفجوة بين الناخبين وصناديق الاقتراع.
استبعاد المرشحين: تصفية بطرق قانونية
تذكر المؤسسة أن الهيئة الوطنية للانتخابات استبعدت 39 مرشحًا من القوائم الفردية، بينهم 11 ينتمون لأحزاب معارضة رئيسية مثل «التحالف الشعبي الاشتراكي» و«الدستور» و«المحافظين». جاءت أسباب الاستبعاد متنوعة: عدم أداء الخدمة العسكرية، نقص الأوراق، أو عدم اجتياز الكشف الطبي، بما في ذلك تحاليل المخدرات.
لكن نمط القرارات يكشف عن استهداف واضح لرموز المعارضة. فاستبعاد النائب السابق هيثم الحريري تحت ذريعة استثنائه من الخدمة العسكرية بدا مريبًا، خاصة أنه شغل مقعدًا برلمانيًا لولايتين سابقتين رغم الوضع نفسه.
حالات نموذجية من الجدل
المرشح محمد عبد الحليم من «التحالف الشعبي» استُبعد بدعوى تعاطي المخدرات رغم تقديمه شهادة رسمية من وزارة الصحة تثبت العكس.
كما تعرّض محمد أبو الديار، مدير حملة أحمد الطنطاوي، للإقصاء بعد حذف اسمه من قاعدة الناخبين، ما سلبه حقه الدستوري في الترشح رغم تمتعه بكامل حقوقه السياسية.
وفي حالة أخرى، أُلغي استبعاد المرشح أحمد الشربيني بعد حكم قضائي، ما يبرز الارتباك في قرارات الهيئة من جهة، والشبهات التي تلاحقها من جهة أخرى.
انسحابات قسرية
لم يكن الضغط مقتصرًا على القرارات الرسمية؛ فأحزاب مثل «المحافظين» أعلنت انسحاب عدد كبير من مرشحيها بسبب ممارسات اعتبرت "إقصائية" لصالح مرشحي «القائمة الوطنية»، ما أدى إلى خفض عدد مرشحيها من 29 إلى 13 فقط.
توريث المقاعد: البرلمان يتحول إلى "ملكية خاصة"
تكشف الورقة عن توسع ظاهرة توريث المقاعد داخل القوائم المطلقة عبر وضع الأبناء والإخوة في مواقع الاحتياطي، ليحلوا مكان المرشحين الأساسيين عند خلو المقاعد لأي سبب.
هذه الممارسة تم رصدها بشكل واضح في «القائمة الوطنية»، حيث شملت عشرات الأسماء من العائلات ذات النفوذ السياسي.
من أمثلة ذلك:
- وزير الإسكان السابق عاصم الجزار وضع ابنته لاجين كاحتياطي.
- عدّة مرشحين من حزبي «مستقبل وطن» و«حماة وطن» ضمّوا أشقاءهم أو أبناءهم كبدائل جاهزة.
أموال طائلة مقابل المقعد
تشير المؤسسة إلى أن بعض المرشحين دفعوا مبالغ وصلت إلى 50 مليون جنيه لضمان إدراج أسمائهم ضمن القوائم المدعومة من أجهزة الدولة.
هذا الواقع يحوّل المقعد البرلماني من مساحة خدمة عامة إلى استثمار عائلي يورَّث عبر شبكات النفوذ، ويقضي على أي إمكانية لبروز كوادر سياسية حقيقية.
نواب «الباراشوت»: ممثلون بلا جذور انتخابية
ظاهرة أخرى تلتهم مصداقية العملية الانتخابية، وهي ترشيح أشخاص في محافظات ليست لهم أي علاقة بها، فيما يعرف بـ"نواب الباراشوت".
تضرب المؤسسة أمثلة واضحة:
- الكاتب الصحافي عماد الدين حسين، ابن محافظة أسيوط، رُشّح في محافظة البحيرة، بلا أي صلة جغرافية أو اجتماعية.
- سليمان وهدان، نائب بورسعيد السابق، ترشح فجأة في الشرقية.
- رجل الأعمال طارق رضوان، الذي مثل سوهاج لسنوات، وجد نفسه مرشحًا في القاهرة.
هذه الممارسات لا تنتهك فقط مبدأ التمثيل المحلي، بل تؤكد أن القوائم تدار وفق مصالح مركزية بحتة، لا وفق احتياجات الدوائر الانتخابية.
العزوف الجماهيري: صناديق بلا ناخبين
سجّلت المرحلة الأولى عزوفًا واسعًا من الناخبين، وهو ما أرجعته المؤسسة إلى:
- غياب التنافس الحقيقي.
- استبعاد مرشحي المعارضة أو تهميشهم.
- فقدان الثقة في أن الانتخابات يمكن أن تُحدث تغييرًا.
هذا العزوف ظهر جليًا في اللجان الخاوية، ما دفع أحزاب الموالاة والأجهزة الإدارية إلى التحرك لملء الفراغ.
حشد قسري وشراء أصوات
وفق التقرير، استخدمت الوزارات الحكومية حافلات لنقل الموظفين للتصويت. كما ظهرت تسجيلات مصورة تُظهر توزيع أموال على الناخبين، حيث قفز سعر الصوت من 200 جنيه إلى 500 جنيه في اليوم الثاني للانتخابات.
هذه الأرقام —التي انتشرت عبر عشرات الفيديوهات— تعكس طبيعة العملية الانتخابية التي تحوّلت إلى سوق مفتوح، يتنافس فيه المرشحون ليس على طرح برامج، بل على القدرة المالية.
أسئلة مفتوحة حول مستقبل السياسة في مصر
تخلص المؤسسة إلى أن مسار المرحلتين الأولى والثانية يثير تساؤلات حادة حول مستقبل العمل السياسي:
- هل يمكن للأحزاب أن تنشط في بيئة انتخابية غير متوازنة؟
- هل ستتقلص فرص التنافس أكثر مع تكريس ظاهرة التوريث والمال السياسي؟
- وهل يمكن للنظام الانتخابي القائم أن ينتج برلمانًا يمثل فعلاً إرادة الناخبين؟
وتقترح المؤسسة العودة إلى نظام القائمة النسبية مع دوائر أصغر، كما حدث في انتخابات 2012، التي سمحت بتمثيل واسع لأغلب الأحزاب السياسية.
في ختام هذا المشهد الانتخابي المربك، تبدو المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب أقرب إلى مرآة تعكس عمق الأزمة السياسية في مصر، لا مجرد جولة اقتراع عابرة. فالاستبعاد الانتقائي، وتوريث المقاعد، وتضخم المال السياسي، والعزوف الشعبي الواسع، كلها مؤشرات على عملية انتخابية تفقد تدريجيًا قدرتها على إنتاج برلمان يمثل المواطنين لا الشبكات النافذة.
ومع اقتراب الجولة الثانية، تتجه الأنظار ليس لمعرفة من سيفوز بالمقاعد، بل لمعرفة ما إذا كانت العملية برمتها قادرة على استعادة الحد الأدنى من الثقة العامة. فدون إصلاحات حقيقية وجذرية للنظام الانتخابي، ستبقى الانتخابات حدثًا شكليًا، يعمّق الفجوة بين المجتمع والحياة السياسية، ويؤجل إمكانية بناء برلمان يعكس صوت الناس بدلًا من إعادة إنتاج السلطة ذاتها بوجوه مختلفة.

