لا يبدو المصريون مكترثين كثيرًا بانتخابات مجلس النواب، على غير ما يفترض لكون آلية الانتخابات هي حقهم الأصيل في اختيار النواب أو المشرعين الذين سينوبون عنهم في الحفاظ على مصالح الشعب، وسن التشريعات التي تحفظ له كرامته وتصون آدميته، فضلاً عن ممارسة الرقابة على السلطة التنفيذية، بما لا يسمح لها بالتغول والسطو على الأدوار المنوطة بالسلطتين القضائية والتشريعية.
لا يمكن بأي حال مقارنة الانتخابات التي انطلقت مرحلتها الأولى قبل 3 أيام في 14 محافظة مصرية بأول انتخابات أجريت في مصر عقب ثورة 25 يناير 2011 التي أجريت على ثلاث مراحل من 28 نوفمبر 2011 إلى 19 يناير 2012، والتي أجمع المراقبون على كونها أول انتخابات وطنية نزيهة تُجرى في مصر منذ الإطاحة بالنظام الملكي في عام 1952.
على الرغم من ذلك، جاء قرار المجلس العسكري بحل مجلس الشعب بعد حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية طريقة انتخاب ثلث أعضائه المستقلين، مما يعني وفق المحكمة، اعتبار انتخابات المجلس الذي يقوم بالدور الأساسي في التشريع كلها غير دستورية.
الانقضاض على برلمان الثورة
كان التذرع بوجود عوار قانوني شاب الانتخابات هو الذريعة الظاهرة، لكن الانقضاض على أحد أبرز مكتسبات ثورة يناير في اختيار البرلمان دون تزوير أو توجيه، وكان ذلك نوعًا من المساومة السياسية، بعد أن نجح الإسلاميون وفي مقدمتهم "الإخوان المسلمون" في تحقيق الأغلبية البرلمانية.
وهو ما عكسه تهديد كمال الجنزوري، رئيس مجلس الوزراء آنذاك للدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب بأن قرار "حل مجلس الشعب فى الدرج"، وقد خرج القرار بالفعل في التوقيت الذي أراده المجلس العسكري، فلم يستمر سوى لـ 6 شهور فقط، قبل أن يتم تنفيذ الحكم ببطلانه.
وردت جماعة "الإخوان" على القرار ببيان شديد اللهجة اعتبر أن قرار المجلس العسكري بحل البرلمان هو "انتزاع للسلطة التشريعية بغير حق، ليضيفها إلى السلطة التنفيذية التي يفترض تسليمها للمدنيين بعد أسبوعين"، ووصفت الأمر بأنه انقلاب على المسيرة الديمقراطية برمتها، وعودة بمصر إلى نقطة الصفر من جديد.
انقلاب على إرادة المصريين
كان ذلك بداية الانقلاب على ثورة يناير، بإجهاض أصوات ملايين المصريين الذين خرجوا بمحض إرادتهم دون إغراءات أو ضغوط ليمارسوا حقهم في اختيار من يمثلونهم تحت قبة البرلمان، على غير ما كان يحدث في العهود السابقة من عمليات تزوير شهد بها القاصي والداني، وهو ما أفرز عن اختيار نواب يحوم حولهم الفساد، يعملون لمصلحة من أتى بهم، ولا يعنيهم من يمثلونهم في شيء، باستثناء معارضة ناضلت قدر المستطاع وتقدمت باستجوابات ضد الفساد، وسعت بكل ما في وسعها إلى الدفاع عن مصالح الشعب، لا مصلحة الحكومة وأجهزتها الأمنية.
كان ذلك كفيلاً بأن يبث حالة من الإحباط في نفوس المصريين التواقين إلى الديمقراطية، وأن يبدد آمالهم في رؤية برلمان يصدح أعضاؤه ضد الحكومة بالاستجوابات، وفي رؤية تشريعات تتوافق مع طموحاتهم في تكريس الديمقراطية والتخلص من سياسات القمع والقهر التي لطالما عانوا منها في عهود الاستبداد السابقة.
عودة مصر عقودًا إلى الوراء
ما حصل كان مؤشرًا على أن هناك من لا يريد بالمصريين ولا بثورتهم خيرًا، وهو ما تحقق في الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي في الثالث من يوليو 2013، ويعيد البلاد إلى أكثر من 40 سنة إلى الوراء، وفق تهديد قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي.
عادت مصر عقودًا إلى الوراء تحت حكم الانقلاب، وبات اختيار أعضاء المجالس النيايبة يجرى داخل جدران الأجهزة الأمنية، ليتم هندسة البرلمان وفق إرادتها، ليعمل في خدمة مصالح النظام، وتثبيت أركان حكمه، عبر اختيار نواب لا يطمعون في أكثر من الحصول على الحصانة، للتستر على فسادهم، وممارسة سياسة النهب بانتظام تحت صفة "نائب برلماني"، دون حسيب أو رقيب.
فلم نعد نسمع عن نواب يتقدمون باستجوابات، وكأنها رجس من عمل الشيطان في عهد الانقلاب، ولم يجرؤ أحد من هؤلاء الذين تم زرعهم داخل البرلمان على مساءلة وزير أو محاسبة مسؤول، وإلا حُرم من الامتيازات، وانضم إلى قائمة المغضوب عليهم.
وباتت مهمة برلمان ما بعد الانقلاب في أفضل الأحوال هي "تمرير" كل ما يرغبه النظام، حتى وإن اصطدم برغبات الشعب، وهو ما جعله يستحق عن جدارة "مجلس النظام" لا "مجلس الشعب"، فالشعب ليس في حسبان أولئك الذين أهدروا إرادة المصريين وانقلبوا على خياراتهم، ليؤسسوا لدولة القمع والديكتاتورية، وحكم دولة الفرد الواحد، حيث لا صوت يعلو فوق الحاكم ومشيئته.

