بينما تُروج حكومة الانقلاب لصورة انتخابات نزيهة، تتوالى مشاهد الانتهاكات وعمليات الاستغلال الممنهج للفقراء في شوارع المحافظات المصرية. مع دخول اليوم الثاني من التصويت في انتخابات مجلس النواب، تصاعدت حدة الخروقات، وعلى رأسها نقل الناخبين بالعربات الجماعية مقابل مبالغ مالية تُقدّر بـ500 جنيه للصوت، في مشهد يُلخّص ما آلت إليه ديمقراطية "الديكور".
عربات تحمل الغلابة... و"ثمن الصوت" معلوم
في أكثر من محافظة، شوهدت عربات نقل تقلّ سيدات ورجالاً من الطبقات الأكثر فقرًا إلى لجان الاقتراع، مقابل وعد صريح بالحصول على 500 جنيه بعد التصويت لصالح مرشح بعينه. في بعض المناطق، تم التوزيع فورًا أمام اللجان، وفي مناطق أخرى وعدهم مندوبو المرشح بالتسليم لاحقًا في أحد المقار الحزبية.
المشهد تكرّر في القاهرة الكبرى، والجيزة، والدقهلية، وأسيوط، حيث اصطفت العربات محملة بمواطنين بسطاء، بعضهم يرتدي زي العمل أو يحمل طفله، في ما بدا أنه استغلال فجّ للجوع والفقر من أجل حصد مقعد برلماني.
"يجوعوا الناس... ثم يشتروا صوتهم!"
أحد المواطنين في المنوفية قال: "بقالي أسبوعين مش عارف أجيب غدا لأولادي... لما قالولي تعال صوت وخد 500 جنيه، وافقت. بس مش دي انتخابات، دي مهانة".
وفي الجيزة، قالت سيدة مسنّة تم نقلها بعربة ميكروباص: "إحنا مش فاهمين بنصوت لمين، قالوا فيه فلوس بعد ما تبصم، وركبونا".
التوثيقات تعكس بوضوح أن المسألة لا تتعلق بقناعة سياسية أو مشاركة ديمقراطية، بل بتكريس الفقر كأداة انتخابية.
مشاهد فوضى وتوجيه انتخابي
شهدت لجان عديدة حالات من التوجيه العلني للناخبين، حيث وُجد مندوبو المرشحين المدعومين من الأجهزة الأمنية داخل محيط اللجان، يوزعون أوراقًا مطبوعة بها رقم المرشح ورمزه، ويوجهون الناخبين أثناء الدخول.
في الشرقية، تم رصد حالات دخول جماعي لناخبين في لجان ريفية، فيما أكد شهود عيان أن القضاة التزموا الصمت، رغم تقديم اعتراضات من بعض المرشحين المستقلين.
وفي نفس السياق، قدّم مرشح آخر في سوهاج بلاغًا رسميًا إلى الهيئة الوطنية للانتخابات حول عمليات شراء أصوات منظمة، مدعومة من قيادات تنفيذية في المحافظة، ولم يتلقَّ أي رد.
صمت إعلامي.. وتهليل للتجميل
الإعلام الرسمي والمقرب من الدولة تجاهل تمامًا مشاهد الانتهاكات، وركّز فقط على مشاهد الحضور النسائي، بينما قام بتلميع مشروعات الدولة باعتبار الانتخابات امتدادًا لـ"الاستقرار السياسي".
وفي أحد البرامج التلفزيونية، ظهر مذيع يصف العملية الانتخابية بـ"العرس الديمقراطي"، بينما كانت الصور الحية تُظهر صفوف الفقراء المتكدسين أمام سيارات الدفع الرباعي لتسلّم المبلغ الموعود.
من يشتري الصوت.. لا يمثل الشعب
ما يجري في يومَي الانتخابات لا يُمثّل إلا تجويفًا للعملية السياسية، وتحوّل البرلمان إلى غرفة صدى تُعيّن بالأموال لا بالأصوات.
إن مشهد شراء الصوت بـ500 جنيه يُعيد للأذهان أسوأ صور الإهانة الشعبية، ويُثبت أن من يُجَوِّع الناس هو نفسه من يشتري إرادتهم لاحقًا.
البرلمان الذي يُبنى على الرشوة.. يسقط عند أول أزمة
لا يمكن أن تكون ديمقراطية حقيقية قائمة على إهانة الناس وشراء كرامتهم. البرلمان القادم – إذا كان تم انتخابه بهذه الطريقة – لن يملك أي شرعية تمثيلية، ولا سيادة لمصالح الشعب.
إن ما حدث هو تعبير عن قطيعة كاملة بين الحاكم والمحكوم، يُستبدل فيها التمثيل الشعبي بالمال السياسي، والشرعية بالصمت. وللأسف، الجوع هو الحيلة الوحيدة التي لم تفشل في صناديق السلطة.

