يبدو من البروباجندا التي صاحبت افتتاح المتحف المصري الكبير أنه لم يكن إعلانا عن افتتاح حفل ثقافي بل ترويجا عالميا لمشروع يريد منه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي فتح اعين المستثمرين الاجانب لكي يتهافتوا على شرائه او تشغيله او ان يمتازوا حقوق الانتفاع به.
ومما سبق يتضح نية السيسي "بيع" المتحف المصري الكبير، الذي يعد، كأصل من أصول الدولة ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرحه الكثيرون، ليس ماذا سيحقق المتحف لمصر بل "متى سيتم بيعه؟"، ليس مجرد تكهن، بل هو استنتاج منطقي مبني على سياسة اقتصادية ثابتة ينتهجها السيسي، حيث يتم بناء المشاريع القومية الضخمة بقروض باهظة، ثم تُطرح لاحقًا للاستثمار أو الشراكة مع القطاع الخاص، وهو ما يراه المراقبون بيعًا مقنّعًا لسداد الديون التي تسببت فيها هذه المشاريع ذاتها. إن مصير المتحف، الذي وُلد من رحم الديون اليابانية، يبدو مرسومًا ضمن هذه الاستراتيجية.
المتحف الكبير: من قرض ياباني إلى وجهة استثمارية
لم يصدر إعلان رسمي ومباشر عن بيع المتحف المصري الكبير، الذي تم افتتاحه مطلع نوفمبر 2025. ومع ذلك، فإن الخطاب الحكومي يمهد الطريق لتعظيم استثماراته، وهو ما يفتح الباب أمام دخول القطاع الخاص لإدارة وتشغيل خدماته. وصف وزير المالية افتتاح المتحف بأنه "خطوة مؤثرة لتأكيد قوة البيئة الاستثمارية في مصر وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة". ويأتي هذا التوجه في سياق يرى فيه البعض أن الافتتاح الضخم هو حملة تسويق عالمية لجذب مليارات الدولارات أكثر من كونه مجرد حدث ثقافي.
بدأت فكرة المتحف في التسعينيات، لكن المشروع تعثر لسنوات قبل أن تستأنفه حكومة السيسي بقوة. تم تمويل المشروع بشكل أساسي عبر قرضين من اليابان، حيث حصلت الحكومة في 2016 على القرض الثاني وأسندت استكمال المشروع للهيئة الهندسية للقوات المسلحة. تجاوزت التكلفة الإجمالية للمشروع المليار دولار، وقد تصل إلى ملياري دولار بحسب تقديرات غير رسمية، وهو مبلغ ضخم يضاف إلى فاتورة الديون المصرية. وبينما يُقدَّم المتحف كإنجاز تاريخي، فإن الاعتماد على القروض في بنائه يجعله، مثل غيره من الأصول، ورقة ضمن خطة الحكومة لتوفير سيولة دولارية عاجلة.
مشاريع عملاقة برهن القروض
لم تكن سياسة الاقتراض للمشاريع الكبرى مقتصرة على المتحف، بل كانت نمطاً متكرراً في عهد الرئيس السيسي، الذي صرح بأن الدولة أنفقت ما يقرب من 400 مليار دولار منذ عام 2014 للخروج من دائرة الفقر، وهي أموال يأتي جزء كبير منها من القروض الخارجية.
العاصمة الإدارية والمونوريل: تعد العاصمة الإدارية الجديدة المشروع الأضخم والأكثر إثارة للجدل. ورغم التكلفة الفلكية التي مولت عبر قروض وديون، أعلنت الحكومة عن خطط لطرح شركات تابعة للمشروع في البورصة. وينطبق الأمر ذاته على مشروع "مونوريل العاصمة الإدارية"، الذي تمت الموافقة على قرض بقيمة 1.8 مليار يورو لتمويله من بنوك دولية. هذه المشاريع التي قُدمت كحلول لمشاكل مصر، أصبحت هي نفسها جزءاً من أزمة الديون.
محطات الكهرباء: اعتبر نظام السيسي بناء محطات كهرباء سيمنس الألمانية من أبرز إنجازاته لحل أزمة الطاقة. لكن بعد إنفاق حوالي 9 مليارات دولار على هذه المشاريع، والتي مولت بقروض أيضاً، تراجع دورها بسبب تحول مصر من تصدير الغاز إلى استيراده. وفي خضم الأزمة الاقتصادية، طرحت الحكومة فكرة بيع هذه المحطات لتسديد ديون أخرى، لكنها اصطدمت بشروط البنوك الألمانية الممولة التي تمنع التصرف في الأصول قبل سداد كامل تكلفتها. يكشف هذا الموقف عن حلقة مفرغة من الديون، حيث تسعى الحكومة لبيع أصل ممول بقرض لسداد قرض آخر.
مشاريع أخرى متعثرة: لم تكن كل المشاريع ناجحة، فمشروع "مدينة الأثاث بدمياط"، الذي قُدم كمشروع قومي، اعترف السيسي نفسه بفشله لاحقاً بعد أن عمل بأقل من طاقته الإنتاجية وتسبب في مديونية المشترين للحكومة. وكذلك مصنع "الحديد والصلب" الذي تم إنفاق 3 مليارات جنيه عليه وأصبح الآن مهجوراً، تبحث الحكومة عن بيعه كخردة.
هل توجد مشاريع بلا قروض؟
يكاد يكون من المستحيل العثور على مشروع قومي ضخم واحد في عهد السيسي لم يتم تمويله عبر قروض خارجية أو ديون محلية. حتى المشاريع التي تبدو اجتماعية، كمبادرة التمويل العقاري لمحدودي ومتوسطي الدخل، تعتمد على آليات بنكية وتمويلية تندرج ضمن المنظومة الاقتصادية العامة المعتمدة على الاستدانة. فالسياسة المالية للدولة أصبحت مرتهنة بشكل شبه كامل للحصول على قروض جديدة لسداد فوائد وأقساط قروض قديمة، وهو ما حذر منه خبراء اقتصاديون، مؤكدين أن مصر أصبحت رهن التدخل الأجنبي بسبب تراكم الديون التي تجاوزت مدفوعاتها 167 مليار دولار.
بيع المستقبل لسداد الحاضر
إن طرح أصول الدولة ومشاريعها التي بنيت بديون باهظة للبيع، سواء للمصريين أو الأجانب، يعكس عمق الأزمة التي وصلت إليها البلاد. فبدلاً من أن تكون هذه المشاريع قاطرة للتنمية ومصدراً للدخل، تحولت إلى عبء يتم التخلص منه لتوفير سيولة مؤقتة. هذه السياسة لا تعالج جذور المشكلة المتمثلة في التوسع غير المدروس في مشاريع "الفخرة" على حساب أولويات المواطن، بل ترجئ الأزمة وتورثها للأجيال القادمة التي ستجد نفسها مطالبة بسداد ديون مشاريع لم تعد تملكها.

