في سابقة هي الأخطر في تاريخ مصر المالي الحديث، كشفت بيانات وزارة المالية أن فوائد الدين العام لم تعد مجرد عبء على الموازنة، بل تحولت إلى وحش كاسر يلتهم كامل إيرادات الدولة ويزيد عليها.
إن حقيقة أن مدفوعات الفوائد خلال الربع الأول من العام المالي الحالي تجاوزت إجمالي الإيرادات بنحو 50 مليار جنيه، ليست مجرد رقم في تقرير، بل هي إعلان صريح بأن النموذج الاقتصادي الذي تبنته الحكومة على مدار العقد الماضي قد وصل إلى طريق مسدود، وأن الدولة أصبحت تقترض فقط لتسدد فوائد ديونها القديمة، في حلقة مفرغة تضع مستقبل 106 ملايين مصري على المحك.
دوامة الاقتراض بالأرقام
الأرقام التي كشفتها وزارة المالية لا تدع مجالًا للشك في حجم الكارثة. فقد قفزت مدفوعات فوائد الدين بنسبة 54% على أساس سنوي لتسجل 695.3 مليار جنيه في ثلاثة أشهر فقط. لفهم خطورة هذا الرقم، يجب وضعه في سياقه الأوسع؛ فإجمالي الدين الخارجي لمصر تجاوز 168 مليار دولار، بينما تخطى الدين المحلي حاجز الـ 7 تريليونات جنيه.
هذا يعني أن خدمة الدين وحدها تستنزف أكثر من 60% من إجمالي مصروفات الموازنة، وهو ما يحرم قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم من التمويل اللازم. فالإنفاق على الصحة لا يزال أقل بكثير من الاستحقاق الدستوري (3% من الناتج المحلي الإجمالي)، وكذلك التعليم، مما يؤكد أن أولويات الحكومة المالية انحرفت تمامًا عن احتياجات مواطنيها.
ارتفاع نسبة خدمة الدين إلى الإيرادات:
تظهر البيانات الأخيرة أن فوائد الديون قد التهمت حوالي 73.1% إلى 79% من إجمالي الإيرادات في العام المالي الماضي. وفي بعض الفترات (مثل الربع الأول من السنة المالية 2025-2026)، تجاوزت فوائد الدين الإيرادات الفعلية، مما يعني أن الحكومة تقترض لتمويل نفقاتها الأساسية وحتى لسداد فوائد ديونها القائمة.
صيحات الخبراء التي ذهبت أدراج الرياح
لم تكن هذه الأزمة مفاجئة للمراقبين. فعلى مدار سنوات، حذر خبراء اقتصاديون بارزون من مغبة الإفراط في الاقتراض لتمويل مشروعات لا تحقق عائدًا سريعًا بالعملة الصعبة.
الخبير الاقتصادي هاني توفيق، كان من بين الأصوات التي نادت مرارًا بضرورة التوقف عن سياسة "الاقتراض من أجل الإنفاق البذخي"، مؤكدًا أن المشروعات العملاقة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، يجب أن تُموّل من خلال استثمارات مباشرة وليس ديونًا تثقل كاهل الأجيال القادمة.
كما أشار الخبير ممدوح الولي إلى أن الحكومة تجاهلت تمامًا بناء قاعدة صناعية وزراعية قوية قادرة على توليد إيرادات حقيقية، واختارت بدلًا من ذلك الطريق الأسهل والأكثر خطورة: الديون وبيع الأصول.
مشروعات ضخمة وفاتورة باهظة
يكمن جوهر الأزمة في الأولويات الاقتصادية للحكومة. فبينما كان المواطن يعاني من وطأة تضخم تجاوز في أوقات كثيرة حاجز الـ 30%، كانت مليارات الدولارات تُضخ في مشروعات بنية تحتية ضخمة مثل القطار الكهربائي السريع وأبراج العلمين الجديدة والعاصمة الإدارية.
ورغم الترويج الرسمي لهذه المشروعات على أنها "قاطرة التنمية"، إلا أنها استنزفت موارد النقد الأجنبي الشحيحة وعمّقت المديونية دون أن تساهم بشكل ملموس في حل المشكلات الاقتصادية العاجلة للمواطنين أو توليد تدفقات دولارية مستدامة تكفي لخدمة ديونها. لقد تم بناء مستقبل من الخرسانة والأسفلت على أساس هش من الديون، والآن حان وقت سداد الفاتورة.
المواطن يدفع ثمن السياسات الخاطئة
في نهاية المطاف، من يدفع الثمن هو المواطن المصري. فالحكومة، التي أصبحت عاجزة عن تمويل نفقاتها من إيراداتها، ليس أمامها سوى ثلاثة خيارات، جميعها مؤلمة: إما زيادة الضرائب والرسوم على المواطنين والشركات، أو خفض ما تبقى من دعم على السلع والخدمات الأساسية كالخبز والوقود والكهرباء، أو الاستمرار في طباعة النقود مما يؤجج نيران التضخم ويقضي على القوة الشرائية للجنيه.
لقد أصبح المواطن محاصرًا بين مطرقة الأسعار المرتفعة وسندان تراجع جودة الخدمات العامة، كنتيجة مباشرة لسياسات مالية واقتصادية تجاهلت أبسط قواعد الإدارة الرشيدة ووضعت البلاد على حافة الخطر.
التداعيات ونقطة الانهيار
إن الوضع الحالي يمثل ضغطاً كبيراً على الاقتصاد المصري، حيث يتم توجيه الجزء الأكبر من الموارد المالية لسداد الدائنين بدلاً من الاستثمار في التنمية البشرية والاقتصادية.
هذا الأمر يهدد بوصول الموازنة إلى نقطة حرجة قد لا تستطيع فيها الحكومة في المستقبل توفير التمويل اللازم لسداد الديون أو حتى لتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ما يتطلب تحولاً شاملاً نحو الاعتماد على الإنتاج والتصدير بدلاً من الاستدانة المستمرة.

