في الوقت الذي تحتفي فيه وزارة المالية بارتفاع كبير في الإيرادات الضريبية، والتي بلغت 87.8% من إجمالي إيرادات الموازنة، يعيش المواطن المصري فصلاً جديداً من فصول المعاناة تحت وطأة الغلاء والتضخم. وبينما تُرجع الوزارة هذا النمو إلى "تعافي النشاط الاقتصادي" و"تحسن العلاقة مع مجتمع الأعمال"، تكشف نظرة أعمق أن هذه الأرقام البراقة ليست سوى انعكاس لسياسات اقتصادية ضاغطة، وأن هذه "المتحصلات" تُجبى مباشرة من جيوب المواطنين المنهكة.
رواية رسمية وردية تتجاهل الواقع
تقدم الحكومة رواية متفائلة مفادها أن الاقتصاد المصري يسير على مسار "متوازن ومستقر". وتشير البيانات الرسمية إلى ارتفاع حصيلة الضرائب بنسبة 37% خلال الربع الأول من العام المالي الحالي لتصل إلى 566.2 مليار جنيه. وتنسب الوزارة هذا النجاح إلى عوامل مثل ميكنة النظم الضريبية وحل أزمة النقد الأجنبي. لكن هذه الصورة الوردية تتجاهل عمداً المصادر الحقيقية لهذه الزيادات، والتي لا ترتبط بنمو حقيقي بقدر ارتباطها بموجات غلاء متلاحقة وقرارات أثقلت كاهل الأسر المصرية.
الوقود والتضخم: المصادر الحقيقية للإيرادات
إن الجزء الأكبر من هذه الزيادة في الإيرادات الضريبية، خاصة من ضريبة القيمة المضافة، يأتي كنتيجة طبيعية لارتفاع أسعار السلع والخدمات. فالحكومة نفسها أشعلت فتيل الغلاء عبر قرارات متتالية لرفع أسعار الوقود، كان آخرها في أكتوبر 2025 بزيادة وصلت إلى 13%. هذه الزيادة، التي تأتي ضمن التزامات مصر لصندوق النقد الدولي، لم ترفع تكلفة النقل والمواصلات فحسب، بل أدت إلى تأثيرات تضخمية متتالية على كافة القطاعات، من الزراعة والصناعة إلى أسعار السلع الغذائية الأساسية.
ويتوقع الخبراء أن يؤدي رفع أسعار الوقود إلى تسارع معدلات التضخم لتصل إلى 14% بنهاية عام 2025. وبالتالي، فإن كل جنيه يدفعه المواطن زيادة في سعر سلعة أو خدمة، يذهب جزء منه مباشرة إلى خزينة الدولة كضريبة، مما يعني أن الحكومة تجني الأموال من التضخم الذي تسببت سياساتها في تأجيجه.
مواطن مطحون تحت وطأة الديون والضرائب
بعيداً عن لغة الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، تروي حياة المواطن اليومية قصة مختلفة تماماً. لقد تدهورت القدرة الشرائية بشكل حاد، حيث قفز سعر بنزين 92 على سبيل المثال بنسبة 564% خلال تسع سنوات. وتشير التقديرات إلى أن الأسرة المصرية تحتاج ميزانية شهرية تتراوح بين 20 و30 ألف جنيه لتعيش حياة كريمة، وهو رقم يفوق بكثير دخل الغالبية العظمى.
وتتحمل الأسر الفقيرة العبء الأكبر، حيث يتوقع أن تقتطع زيادة الأسعار الأخيرة ما بين 3% إلى 7% من دخلها الشهري المحدود أصلاً. وفي ظل هذا الواقع، ارتفعت مطالبات برفع الحد الأدنى للأجور إلى 9 آلاف جنيه شهرياً لمجرد مواكبة موجات الغلاء.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذه التضحيات لا تعود على المواطن في شكل خدمات أفضل أو دعم اجتماعي. ففي المقابل، تلتهم فوائد الديون المتراكمة معظم إيرادات الميزانية، حيث ارتفعت بنسبة 54% في الربع الأول من العام المالي الحالي، مما يفاقم من عجز الموازنة ويدخل البلاد في حلقة مفرغة من الاقتراض والتقشف.
موازنة على حساب الفقراء
إن احتفاء وزارة المالية بزيادة الإيرادات الضريبية هو احتفاء مضلل يتجاهل الألم الاجتماعي العميق الذي يقف خلف هذه الأرقام. فالحقيقة المرة هي أن هذه الأموال لم تأتِ من ازدهار اقتصادي حقيقي، بل تم انتزاعها من قوت المواطنين عبر سياسات ضريبية توسعية ورفع للدعم، مما أدى إلى إفقار شرائح واسعة من المجتمع وتآكل الطبقة الوسطى. إنها موازنة يتم تمويلها على حساب تجويع الشعب، وتؤكد أن الأولوية ليست لتحسين معيشة المواطن، بل لخدمة أعباء الديون وتنفيذ إملاءات المقرضين الدوليين.

