في الوقت الذي تتفاخر فيه السلطة المصرية بـ“الإنجاز التاريخي” المتمثل في افتتاح المتحف المصري الكبير، كشف الدكتور يسري عزيز حقائق صادمة حول طبيعة تمويل المشروع وإدارته وملكيته، تكشف أن اليابان – ممثلة في وكالة التعاون الدولي “جايكا” (JICA) – حصلت على حق الانتفاع بالمتحف لمدة عشر سنوات كاملة، بموجب القرض الياباني الذي تم تمديده من 300 مليون دولار إلى 800 مليون دولار أمريكي.

هذه المعلومات، التي وصفها بأنها “فضيحة بجلاجل جديدة للسيسي”، تؤكد أن النظام لم يكتفِ برهن حاضر البلاد ومستقبلها بالديون، بل وصل الأمر إلى رهن رموز الحضارة نفسها لصالح جهات أجنبية، في صفقة مشبوهة لا يعرف عنها الشعب المصري شيئًا.
 

خلفية المشروع: من حلم حضاري إلى قرض مرهون
بدأت قصة المتحف المصري الكبير في فبراير 2002 حين وضع الرئيس الراحل حسني مبارك حجر الأساس، ضمن رؤية لتحويل الجيزة إلى مركز عالمي للسياحة الثقافية.

تم تمويل المشروع في البداية من خلال قرض ياباني بقيمة 300 مليون دولار من وكالة “جايكا”، وكان الهدف إنشاء صرح حضاري عالمي يعرض كنوز مصر القديمة بطريقة حديثة.
لكن بعد ثورة يناير 2011 وتعاقب الحكومات، ظل المشروع متعثرًا حتى 2016، عندما قرر عبد الفتاح السيسي نقل الإشراف إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالشراكة مع وزارة الآثار.

ومنذ تلك اللحظة، تحوّل المشروع من حلم ثقافي إلى صفقة مالية ضخمة، حيث تم رفع قيمة القرض إلى 800 مليون دولار أمريكي، أي أكثر من ضعف المبلغ الأصلي، مع إدخال شركتي أوراسكوم للإنشاءات وبيسيكس البلجيكية (Besix) كمقاولين رئيسيين للمشروع.
 

الفضيحة: اليابان تمتلك “حق الانتفاع” لعشر سنوات
المفاجأة الكبرى جاءت حين كشف يسري عزيز أن شركة جايكا اليابانية حصلت على حق الانتفاع بالمتحف لمدة 10 سنوات كاملة، في اتفاق يمنحها السيطرة على عوائد التذاكر، والإدارة الفنية والتشغيلية، ومتحف التسويق الداخلي والخدمات السياحية المرتبطة بالموقع.
هذا يعني أن المتحف – الذي يُروّج له النظام على أنه “فخر مصر” – لن يعود بأي نفع مالي على المصريين لمدة عقدٍ كامل.

عمليًا، أصبحت اليابان هي المستفيد الأول من المشروع، بينما دفعت مصر القرض وستدفع فوائده، في صفقةٍ تُعيد للأذهان أسوأ أنماط “الانتفاع الأجنبي” بمقدرات البلاد.
وبينما تتحدث الحكومة عن “شراكة ثقافية”، يرى خبراء الاقتصاد أن ما حدث هو بيع مؤجل لرمز من رموز السيادة الثقافية المصرية تحت غطاء الاستثمار الدولي.
 

دور السيسي: إدارة بالقروض وترويج بالأوهام
في 2016، عندما تولت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة إدارة المشروع، رُفع شعار “تسريع التنفيذ وتوفير التمويل”، لكن الحقيقة أن المشروع تحوّل إلى أداة جديدة لتلميع صورة النظام وإلهاء الرأي العام عن الأزمات الاقتصادية.
فبينما كان المواطن يعاني من موجات التضخم ورفع الدعم وغلاء الأسعار، كانت السلطة تنفق المليارات على “احتفالية الأسطورة” و“عظمة الأجداد”، دون أي عائد مباشر على الشعب.

الخطير أن القرض الياباني البالغ 800 مليون دولار يُضاف إلى جبل الديون الخارجية التي تجاوزت 170 مليار دولار، دون شفافية في الشروط أو آلية السداد أو الجدوى الاقتصادية.
بكلمات أخرى، المتحف الذي يُفترض أنه يرمز لعظمة المصريين القدماء، أصبح رمزًا لانبطاح الدولة الحديثة تحت سيف القروض الأجنبية.
وكما يقول مراقبون، فإن “عبد الفتاح السيسي لا يبني المتاحف من أجل المصريين، بل من أجل صورته أمام الخارج”.
 

الاستقلال الثقافي المرهون: من الاقتصاد إلى الهوية
تتجاوز فضيحة المتحف البعد الاقتصادي إلى البعد السيادي والثقافي.
فحين تصبح الحضارة نفسها مادة للمقايضة مع الدائنين، تفقد الأمة أحد أهم رموز كرامتها.

مصر التي شيّدت الأهرامات بعرق أبنائها قبل آلاف السنين، تعجز اليوم – في عهد السيسي – عن إدارة متحفها دون اقتراض من الخارج ومنح حق انتفاع للأجانب.

هذا المشهد ليس معزولًا، بل يعكس سياسة ممنهجة تعتمد على الديون مقابل الظهور الإعلامي، حيث تُباع الأصول وتُرهن الأراضي وتُمنح الامتيازات للأجانب، في مقابل استمرار النظام وتلميع صورته.
 

التاريخ رهينة والنظام بلا كرامة
ما يحدث اليوم هو إهانة صريحة للحضارة المصرية التي يتشدّق بها النظام في كل مناسبة.
فمن غير المقبول أن يتحوّل “المتحف المصري الكبير” إلى مشروع انتفاع تجاري لصالح اليابان، بينما تُدفع فوائده من جيوب المصريين الذين لا يجدون ما يأكلونه.

لقد باع السيسي الأرض والغاز والكرامة، وها هو اليوم يبيع التاريخ نفسه في صفقة مشبوهة تُضاف إلى سجل طويل من الرهانات الخاسرة.

ويبقى السؤال الذي يتردّد بين المصريين:“هل بقي شيء لم يبع بعد؟”
الإجابة المؤلمة، كما يهمسها الشارع، هي أن حتى الفراعنة لم يسلموا من ديون السيسي.