رغم إطلاق حكومة السيسي لمشروع التأمين الصحي الشامل على مراحل منذ عام 2018، إلا أن الواقع في أغلب المحافظات يشير إلى تدهور خطير في جودة الخدمات الطبية، وسط شكاوى واسعة النطاق من المواطنين، سواء في الريف أو المدن.

 

تعاني المستشفيات والمراكز الصحية التابعة للتأمين من نقص حاد في الأدوية والأطباء، وتعطّل الأجهزة الطبية، وتأخر في مواعيد العمليات والفحوصات، مما جعل من «التأمين الصحي» نظامًا شكليًا لا يفي بوعوده، ولا يضمن أبسط حقوق المرضى في العلاج الآمن والكريم.


أصوات من الداخل: شهادات من المرضى والأطباء


في محافظة القليوبية، اشتكت أم لطفلين من أن مستوصف التأمين الصحي رفض صرف دواء الضغط لزوجها لأنه "غير متوفر"، واضطرت إلى شرائه من الصيدلية الخاصة بثلاثة أضعاف السعر. وفي أسيوط، قالت سيدة مسنّة: "كل ما نروح يقولوا الدكتور مش موجود، أو العيادة مقفولة للصيانة".


وفي الجيزة، كشف موظف حكومي (طلب عدم ذكر اسمه) أن وحدة التأمين بحي الهرم تعجز منذ شهور عن إجراء أشعة رنين لطفله بسبب "تعطل الجهاز"، وقد أُبلغ بضرورة عملها في مركز خاص على نفقته الخاصة.


أما أحد الأطباء العاملين بمستشفى التأمين في المنصورة، فقال: "نشتغل تحت ضغط، مفيش أجهزة حديثة، ولا أدوية تكفي المرضى، وكمان مرتبات الأطباء منخفضة، وكل ده بيأثر على مستوى الخدمة اللي بنقدمها للناس".


أين الأدوية؟ السوق السوداء تحاصر المرضى


أبرز الأزمات التي يواجهها المنتفعون بالتأمين الصحي هي نقص الأدوية المزمن، حيث تعاني مخازن التأمين من نفاد مستمر لأنواع حيوية من العقاقير، مثل أدوية السكر والضغط ومضادات الأورام. وتدفع هذه الأزمة المرضى إلى اللجوء إلى الصيدليات الخارجية بأسعار مرتفعة، أو الاكتفاء بنصف الجرعة، ما يعرض حياتهم للخطر.


في سوهاج، يؤكد أحد الصيادلة أن "المرضى بييجوا بكروت التأمين يسألوا عن الدواء اللي المفروض يصرفوه من المستشفى، لكن بيرجعوا صفر اليدين"، مشيرًا إلى أن بعض الأدوية التي كان يفترض أن تُمنح مجانًا تُباع الآن بأسعار مبالغ فيها.


أزمة الكوادر الطبية: هروب الأطباء وصمت الوزارة


يعاني نظام التأمين الصحي من عجز صارخ في عدد الأطباء والتمريض، خاصة في المحافظات الحدودية والصعيد، ما يجعل بعض الوحدات الصحية غير قادرة على فتح أبوابها بانتظام. ويرجع هذا إلى ضعف المرتبات، وسوء بيئة العمل، وغياب الحوافز الوظيفية، ما يدفع كثيرين من الأطباء إلى الهجرة أو العمل في القطاع الخاص.


وقد أصدرت نقابة الأطباء أكثر من بيان خلال العامين الماضيين، حذرت فيه من تفاقم الأزمة إذا لم تُرفع الأجور ويُحسّن بيئة العمل. ومع ذلك، لا تزال الاستقالات الجماعية مستمرة، خصوصًا بين شباب الأطباء.


تكدس وزحام.. ولا مكان للمريض البسيط


بسبب غياب مراكز التأمين الصحي المتخصصة، يضطر المرضى إلى التكدس في مستشفيات محددة، ما يؤدي إلى قوائم انتظار تمتد لأشهر. في الإسكندرية، تنتظر سيدة عجوز منذ 4 شهور موعدًا لإجراء عملية مياه بيضاء في العين، وقد تم تأجيل الموعد مرتين بسبب "عدم وجود طبيب تخدير"، وفق ما قاله لها الموظف المسؤول.


وفي كفر الشيخ، تشتكي عائلة من أن طفلتها المريضة بالقلب لا تجد سريرًا في قسم العناية المركزة بمستشفى التأمين، وتضطر للسفر إلى القاهرة لتلقي العلاج، ما يزيد العبء النفسي والمادي على الأسر الفقيرة.


وعود رسمية وإنجازات على الورق


رغم الشكاوى المتصاعدة، تستمر وزارة الصحة وهيئة التأمين الصحي في إطلاق بيانات تؤكد "تحسن الخدمات" و"توسيع مظلة الرعاية". إلا أن هذه التصريحات لا تجد صدى على الأرض، ويؤكد كثير من المواطنين أن المشروع الشامل لم يصل بعد إلى معظم المحافظات، وأن "ما يُقدّم من خدمات ما زال متدنيًا وغير كافٍ".


وتُعد محافظات بورسعيد والأقصر والإسماعيلية من النماذج القليلة التي شهدت تحسنًا نسبيًا، لكن في ظل غياب خطة واضحة للتعميم العادل، تبقى أغلب المحافظات خارج دائرة الاهتمام.


أزمة ثقة تحتاج إلى تدخل عاجل


تحوّلت تجربة التأمين الصحي في مصر من أمل شعبي إلى كابوس يومي، حيث تتزايد الأزمات، وتنخفض جودة الخدمة، ويتفاقم الشعور بالخذلان لدى ملايين المواطنين الذين لا يجدون دواءً ولا طبيبًا في وقت حاجتهم.


ولكي يصبح التأمين الصحي مشروعًا حقيقيًا يخدم المواطن لا مجرد شعار، فإن الأمر يتطلب إصلاحًا جذريًا في التمويل، وتوفير الأدوية، وتحفيز الكوادر، وضمان الرقابة. وإلا، فإن صرخات المرضى ستظل تتردد في أروقة المستشفيات دون مجيب.