فيما كانت شاشات التلفزيون تنقل مشاهد احتفالية باهرة في “مهرجان وطن السلام” الذي حضره عبد الفتاح السيسي، كان طريق القاهرة–السويس يشهد واحدة من أبشع الكوارث المرورية في الأشهر الأخيرة.
حادث مروّع أودى بحياة 3 أشخاص وأصاب 45 آخرين، بعدما اصطدمت عدة سيارات نقل وملاكي وأتوبيسات على الطريق الصحراوي، في مشهدٍ يختصر المفارقة المؤلمة بين بلدٍ يُغلق طرقه من أجل الموكب الرئاسي، وبلدٍ يفتح الموت أبوابه للفقراء.
شهود العيان أكدوا أن الطريق كان مغلقًا جزئيًا بسبب تحركات موكب السيسي نحو العاصمة الإدارية لحضور الاحتفال الرسمي، وأن سيارات النقل حُوّلت إلى مسار آخر دون تنظيم، لتدخل إحدى “التريلات” إلى طريق مغلق أمامها، فاصطدمت بعنف بعدد من السيارات الملاكي والأتوبيسات، فتحولت الدقائق إلى جحيم من النيران والصراخ والزجاج المتناثر.
"موقفين الطريق عشان العاصمة الإدارية"..
— شبكة رصد (@RassdNewsN) October 25, 2025
شاهد عيان يصف وقوع الحادث الأليم على طريق القاهرة - السويس pic.twitter.com/Rgi7Kw4OF4
سبع سيارات إسعاف فقط… والبقية في خدمة الموكب
رغم فداحة الحادث، لم تصل إلى المكان سوى سبع سيارات إسعاف، وفق روايات شهود العيان، بينما كانت عشرات سيارات الإسعاف الأخرى مخصصة لتأمين احتفالية السيسي في العاصمة الإدارية.
تأخّر نقل المصابين لساعات، وسقط البعض ينزف في الصحراء قبل أن يصل إليه أي إسعاف، بينما كان الإعلام الرسمي منشغلاً بتغطية حفلٍ “يُروَّج له كإنجاز وطني”، في الوقت الذي كان فيه دم المصريين يسيل على الأسفلت ذاته الذي أُغلق لحماية المسؤولين.
حفل في العاصمة.. ومأتم على الطريق
الاحتفال الذي أُقيم تحت عنوان “مصر وطن السلام” تحوّل إلى رمزٍ للسخرية السوداء على مواقع التواصل الاجتماعي.
الناس تساءلت بمرارة: أيّ وطنٍ للسلام هذا، وطرقه تُغلق على المواطنين، ومواكب المسؤولين تُقدّم على حياة البشر؟
لماذا تُدار الدولة بعقلية “العرض والمشهد”، بينما واقع الطرق والبنية التحتية مأساوي، وحوادث النقل تتكرر أسبوعيًا بلا محاسبة ولا إصلاح؟
الدولة التي تحتفل دائمًا… ولا تعتذر أبدًا
لم يصدر أي بيان رسمي يربط الحادث بإغلاق الطريق بسبب الموكب الرئاسي، رغم تداول الفيديوهات وشهادات المواطنين التي توثّق ذلك بوضوح.
بدلًا من الاعتذار أو التحقيق في سوء التنظيم، اكتفت الجهات الرسمية ببيان مقتضب يعدّد عدد القتلى والمصابين، كأنها تعدّ الأرقام لا الأرواح.
هذا النمط من الإدارة أصبح سمة في عهد السيسي: مواكب فخمة، إضاءة مبهرجة، مؤتمرات باذخة، مقابل مواطن يدفع الفاتورة وحده—ضريبة، وقود، كهرباء، وحوادث.
إهمال متراكم وفساد في الأولويات
الحكومة التي تتحدث عن “مصر الجديدة” تنفق الملايين على مهرجانات واحتفالات، بينما تترك الطرق بلا إشراف حقيقي أو خدمات إسعاف كافية.
السويس، بدر، طريق العين السخنة، وحتى الطرق الجديدة بالعاصمة الإدارية، كلها تشهد حوادث دامية نتيجة الإهمال، وسوء التخطيط، وغياب الرقابة.
كيف لدولة تقول إنها “تبني المستقبل” أن تعجز عن حماية أرواح مواطنيها في طريقٍ يبعد كيلومترات قليلة عن قصر الرئاسة الجديد؟
ثمن لا يدفعه إلا المواطن
الحقيقة القاسية أن المواطن المصري يدفع ثمن كل هذا البذخ مرتين:
مرة من جيبه في صورة ضرائب ورسوم وغلاء، ومرة من دمه على الأسفلت في انتظار إسعافٍ لن يأتي لأنه يُؤمّن حفلًا رئاسيًا.
إنه مشهد يلخّص ما وصلت إليه الدولة: احتفالات للأقوياء، وكوارث للناس العاديين.
وفي النهاية فإن حادث طريق السويس لم يكن مجرد خطأ مروري، بل نتيجة طبيعية لمنظومةٍ تضع الموكب فوق المواطن، والمهرجان فوق الإنسان، والدماء التي سالت هناك تفضح دولةً اختزلت الإنجاز في المؤتمرات، والهيبة في المواكب، والإنفاق في الإبهار، بينما يظل الشعب رهينةً لطريقٍ مغلق، ومستقبلٍ مسدود.
ففي بلدٍ تُغلق الطرق من أجل الاحتفالات، لا تُفتح إلا أبواب المستشفيات لاستقبال الضحايا.

