لطالما ارتبط القطن المصري بسمعة عالمية جعلت منه "الذهب الأبيض" ومصدراً رئيسياً للدخل القومي، وأيقونة للزراعة والصناعة المصرية لعقود طويلة.
لكنّ الواقع الحالي يكشف عن صورة قاتمة لهذا المحصول الاستراتيجي، بعدما انحدرت مكانته وتراجعت زراعته إلى مستويات غير مسبوقة. فوفقاً للأرقام الرسمية، شهد موسم 2024-2025 انخفاضاً حاداً في صادرات القطن بنسبة 24%، لتصل إلى 38.8 ألف طن فقط، بقيمة 129 مليون دولار. كما تقلّصت المساحات المنزرعة بنسبة 37.5% لتسجل 195 ألف فدان مقابل 312 ألفاً العام الماضي.
هذا الانكماش الحاد يطرح أسئلة صعبة عن سياسات الحكومة ودورها في إدارة ملف القطن، وهل لا تزال تؤمن بأهميته، أم أنها تخلّت عنه تاركة الفلاحين يواجهون مصيرهم وحدهم؟
 

تراجع الإنتاج وتدهور المساحات المنزرعة
التراجع الكبير في المساحات المزروعة بالقطن لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لعجز الحكومة عن توفير منظومة تسويق عادلة ومطمئنة للفلاحين.
فبعدما كان الفلاح المصري يتسابق على زراعة القطن باعتباره محصولاً مضمون العائد، أصبح اليوم ينفر منه خشية الخسائر.
العام الماضي، على سبيل المثال، واجه المزارعون أزمة تأخر استلام المحصول وتعطيل صرف مستحقاتهم، ما أدّى إلى حالة من الإحباط الشديد بينهم، ودفع الكثيرين للعزوف عن زراعته هذا الموسم.

وبحسب البيانات الرسمية، فإن إنتاج مصر من القطن خلال موسم 2024-2025 بلغ 87.1 ألف طن فقط، وهو رقم متواضع مقارنة بمكانة مصر التاريخية كأكبر منتج للقطن طويل التيلة في العالم.
 

منظومة تسويق مرتبكة وحلول حكومية ترقيعية
أحد أبرز أسباب الأزمة يتمثل في فشل الحكومة في إدارة منظومة تسويق القطن.
فبدلاً من تقديم حلول جذرية، لجأت الحكومة إلى تدخل ترقيعي خلال الموسم الماضي بتحمّلها 2000 جنيه من قيمة سعر الضمان لإنقاذ الموقف.
لكن هذه الخطوة المؤقتة لم تعالج جذور المشكلة، بل زادت من قلق المزارعين مع إعلان الحكومة مؤخراً أنها لن تحدد سعر ضمان للموسم الجديد، وأن التسويق سيكون معتمداً بالكامل على الأسعار العالمية.

هذا القرار كارثي بالنسبة للفلاح البسيط الذي لا يمتلك الأدوات أو القدرة على التفاوض مع الشركات المصدرة أو مواجهة تقلبات السوق الدولية.
فكيف يمكن لفلاح محدود الدخل أن يغامر بزراعة محصول مرهق ومكلف كالقطن، دون أن يعرف مسبقاً السعر الذي سيبيع به إنتاجه؟
 

نصيب القطاع الخاص مقابل العام.. غياب الدور الوطني
الأرقام تكشف أيضاً عن هيمنة القطاع الخاص على تجارة القطن، إذ بلغت حصته 81% من إجمالي الصادرات، ممثلاً في 23 شركة، بينما اكتفت شركة "مصر لتجارة وحليج الأقطان" الحكومية بنسبة 19% فقط.
هذا التراجع لدور الدولة في منظومة القطن لا يخدم الفلاح، بل يفتح الباب لاحتكار الشركات الخاصة للأسعار والتحكم في السوق، بينما يفترض أن تكون الدولة هي الضامن الرئيسي للمزارع، لا أن تتراجع لتصبح مجرد متفرج.
 

الفلاح بين مطرقة الغلاء وسندان الإهمال
زراعة القطن لم تعد مجزية كما كانت، بل أصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهل الفلاح.
فتكاليف الزراعة من تقاوي وأسمدة وعمالة ارتفعت بشكل كبير نتيجة التضخم المستمر وتدهور الجنيه بعد موجات التعويم المتتالية، بينما يظل العائد غير مضمون.
كثير من المزارعين الذين خاضوا التجربة العام الماضي انتهى بهم الأمر إلى بيع المحصول بأسعار متدنية، لا تغطي حتى تكاليف الزراعة، ما جعلهم يحجمون هذا العام عن زراعته، ويتجهون إلى محاصيل أخرى أقل تكلفة وأكثر أماناً، حتى وإن كانت عوائدها محدودة.
 

أصوات من قلب الحقول.. شهادات الفلاحين
حين تتجول في القرى التي اعتادت أن تتباهى ببياض القطن الممتد على مد البصر، تسمع اليوم نبرة إحباط ويأس واضحة على ألسنة المزارعين.
يقول الحاج عبد الموجود، وهو فلاح من محافظة المنيا: "القطن زمان كان عزوة لينا.. كنا بنزرعه واحنا متطمنين إن الدولة هتستلمه بسعر كويس، دلوقتي بقينا نخاف نزرعه عشان ماحدش ضامن يسوقه ولا يقبض فلوسه في وقتها."

أما الشاب محمد من الدقهلية، فيروي معاناته قائلاً: "الأسمدة غليت والتقاوي بقت نار، ووقت الجني لازم تجيب عمالة يدوي لأن المكن مش متوفر. وفي الآخر الشركات تشتري منك المحصول بأقل من تكلفته. إحنا مش بنزرع علشان نخسر."

في الغربية، التي طالما كانت معقلاً للقطن المصري، تقول أم خالد – وهي أرملة تعيش على عائد أرض صغيرة –: "كنت بزرع قطن علشان أجهز بناتي للزواج. السنة اللي فاتت اتبهدلت، ما قبضتش غير بعد شهور وبسعر قليل، والسنة دي زرعت ذرة أرحم."

هذه الشهادات الحية تلخص حجم الأزمة: الفلاح لم يعد يرى في القطن باب رزق كريم كما كان، بل بات يخشى أن يورطه في ديون وخسائر، وهو ما يكشف تقصيراً حكومياً واضحا.
 

إخفاق حكومي متكرر
الحكومة لم تفشل فقط في وضع سياسة واضحة لزراعة وتسويق القطن، بل تجاهلت أصوات المزارعين وتحذيرات الخبراء لسنوات طويلة. في حين أن دولاً مثل الهند والولايات المتحدة تستثمر بشكل كبير في دعم مزارعي القطن، سواء عبر تحديد أسعار ضمان عادلة أو تقديم دعم مباشر، نجد أن الحكومة المصرية ترفع يدها تدريجياً عن هذا القطاع، تاركة الفلاحين لمصيرهم.

والمفارقة أن الدولة لا تتوقف عن التباهي بمشروعات "التوسع الزراعي" و"استصلاح الأراضي"، بينما في الواقع تنكمش مساحة محصول استراتيجي مثل القطن بنحو 40% في عام واحد.