أثار قرار حكومة الانقلاب في مصر نقل 84 فدانًا من أراضي مركز البحوث الزراعية ووزارة الموارد المائية والري إلى جهاز "مستقبل مصر" للتنمية التابع للقوات الجوية، جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية والاقتصادية والسياسية.
القرار الذي صدر في يوليو 2025 يأتي في ظل توسع الجهاز العسكري في السيطرة على قطاعات استراتيجية، خاصة منظومة الغذاء والأمن الغذائي، وسط تساؤلات حول الجدوى والمخاطر التي تهدد البحث العلمي والتطوير الزراعي في البلاد.
في اجتماع حكومي بتاريخ 9 يوليو 2025، تقرر نقل 69.55 فدانًا بمحافظة الجيزة من ولاية معهد البحوث الزراعية، بالإضافة إلى 14.39 فدانًا من ولاية وزارة الموارد المائية والري، لصالح جهاز "مستقبل مصر" للتنمية.
لم توضح الحكومة طبيعة المشروعات التي ستقام على هذه الأراضي، واكتفت بالإشارة إلى أن القرار يندرج ضمن خطة الجهاز للتوسع في مشروعاته التنموية.
عبّر عدد من العلماء والباحثين في مركز البحوث الزراعية عن صدمتهم من القرار، معتبرين إياه "طعنة" في ظهر البحث الزراعي في مصر، وقال الدكتور محمود الرفاعي، أستاذ علوم التربة في المركز، إن "الأراضي المنقولة تضم بنية تحتية بحثية متقدمة تم بناؤها عبر سنوات، وتشمل معامل متخصصة ونظم ري دقيقة وتربة خضعت للمعالجة العلمية"، مضيفًا: "نقلها إلى جهة غير متخصصة سيقضي على هذه المكتسبات".
خلفية جهاز "مستقبل مصر"
تأسس جهاز "مستقبل مصر" بموجب قرار جمهوري صدر عام 2022، ليكون الذراع التنموي للقوات المسلحة المصرية، بدأ الجهاز بمشروعات استصلاح الأراضي، ثم توسع ليشمل مهام مثل استيراد السلع الاستراتيجية، إدارة بورصة السلع، واستلام القمح المحلي من الفلاحين.
في نوفمبر 2024، حاول الجهاز لأول مرة شراء القمح والزيت النباتي عبر اتفاقيات شراء مباشر، ما أثار ارتباكًا بين المتعاملين في السوق بسبب غموض الإجراءات.
أهمية أراضي البحوث الزراعية
تلعب أراضي مركز البحوث الزراعية دورًا محوريًا في تطوير القطاع الزراعي المصري. فقد تبنت وزارة الزراعة منذ عام 2000 استراتيجية متكاملة لنقل نتائج البحث العلمي من المعمل إلى الحقل، وأثمرت هذه الجهود عن إنتاج أصناف زراعية جديدة، وابتكار أنواع محسنة من الأسمدة، وتطوير سلالات حيوانية ودواجن متطورة.
انعكس ذلك في زيادة إنتاجية فدان القمح من 10-12 أردبًا إلى متوسط 18 أردبًا، ووصلت بعض الحقول الإرشادية إلى 24-30 أردبًا للفدان، كما تضاعفت إنتاجية الذرة من 2 طن للفدان إلى 4 أطنان.
هذه الإنجازات لم تقتصر على المحاصيل، بل شملت تحسين الأعلاف والسلالات الحيوانية وتطوير صناعة الدواجن، ما أدى إلى زيادة العائد الاقتصادي للفلاح المصري وتعزيز الأمن الغذائي الوطني.
خطورة نقل الأراضي على البحث العلمي
يحذر خبراء الاقتصاد والزراعة من أن تقليص مساحة أراضي البحوث الزراعية يهدد مستقبل البحث العلمي والتطوير الزراعي في مصر، فهذه الأراضي تعد مختبرًا طبيعيًا لتجربة الأصناف الجديدة، وتطوير تقنيات الزراعة الحديثة، وتدريب الكوادر البحثية.
ويؤكد الدكتور عطوة أحمد، مدير مركز إدارة وتسويق التكنولوجيا بمركز البحوث الزراعية، أن نجاح البحث العلمي الزراعي يعتمد على وجود الحقول الإرشادية التي تُظهر نتائج الأبحاث على أرض الواقع، ما يعزز ثقة المزارعين في تبني الابتكارات العلمية.
تشير الدراسات إلى أن تراجع دعم الحكومات العربية للبحث العلمي الزراعي أدى إلى انخفاض الميزانيات المخصصة له إلى أقل من 0.5% من الناتج المحلي، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 2.2%، ما يهدد بضعف قاعدة البحث والتطوير ويمنع التكيف مع التحديات المناخية والغذائية.
قال أحد كبار الاقتصاديين في ندوة متخصصة: "إن نقل أراضي البحوث الزراعية لصالح مشروعات غير واضحة المعالم يهدد بتقويض منظومة البحث العلمي التي تحتاجها مصر لمواجهة تحديات الأمن الغذائي والمائي."
وأشار سياسي بارز إلى أن "القرار يأتي في سياق توسع السيطرة العسكرية على القطاعات الاقتصادية، وهو ما قد يؤدي إلى تهميش المؤسسات المدنية البحثية التي أثبتت نجاحها في رفع إنتاجية المحاصيل خلال العقدين الماضيين."
كما شدد خبراء زراعيون على أن "أي مساس بأراضي البحوث الزراعية سيؤثر سلبًا على القدرة الوطنية في مواجهة التغيرات المناخية، وتطوير أصناف مقاومة للجفاف والملوحة، خاصة في ظل أزمة المياه وسد النهضة".
هل مشروع "مستقبل مصر" بديل حقيقي؟
تروج حكومة الانقلاب لفكرة أن نقل الأراضي لجهاز "مستقبل مصر" يهدف إلى زيادة الرقعة الزراعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء عبر مشروعات استصلاح كبرى.
لكن غياب الشفافية حول طبيعة المشروعات المزمع تنفيذها يثير الشكوك حول مدى تحقيق هذه الأهداف، خاصة مع تكرار تجارب سابقة لم تحقق النتائج المرجوة أو أدت إلى إهدار موارد بحثية هامة.
مشروع "مستقبل مصر" الذي تم إطلاقه في يونيو 2021، يقع على طريق محور الضبعة الصحراوي، وتبلغ مساحته الكلية أكثر من 1.5 مليون فدان، وفقًا لتصريحات سابقة للمتحدث العسكري. ويهدف المشروع إلى المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي، ورفع نسب الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية، وهو يخضع لإدارة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة.
لكن اقتصاديين يشككون في جدوى تفضيل "مستقبل مصر" على حساب مراكز البحوث. يقول الدكتور فخري الفقي، رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب سابقًا، إن "المشروع يعتمد على نموذج زراعة مكثف عالي التكلفة في بيئة صحراوية، بينما تفوق كفاءة أراضي مركز البحوث بأضعاف من حيث الإنتاجية والتنوع الزراعي"، مشيرًا إلى أن "ما يُنتج في مركز البحوث يُخدم ملايين الفلاحين، وليس فقط السوق التجاري أو التصدير العسكري".
يمثل قرار نقل 84 فدانًا من أراضي البحوث الزراعية إلى جهاز "مستقبل مصر" منعطفًا خطيرًا في مسار البحث العلمي والتطوير الزراعي في مصر، فبينما تؤكد الأرقام أن هذه الأراضي كانت مصدرًا لإنجازات ملموسة في زيادة إنتاجية المحاصيل وتحسين حياة الفلاحين، يحذر الخبراء من أن تقليصها يقوض القدرة على مواجهة التحديات المستقبلية.