في تطور لافت يثير جدلاً واسعاً في الأوساط القضائية والسياسية المصرية، تشهد مصر حالياً تدريب دفعة جديدة من معاوني النيابة العامة داخل منشآت عسكرية، في خطوة تعكس توجهًا متزايدًا نحو عسكرة السلطات المدنية، وهو ما يثير مخاوف بشأن استقلال القضاء وحياده.

تفاصيل التدريب وعدد المعنيين

بحسب تقارير صادرة في يوليو 2025، تستعد الأكاديمية العسكرية المصرية لتخريج دفعة تضم حوالي 400 شاب وفتاة تم اختيارهم من قبل الأجهزة الأمنية ووزارة العدل للانضمام إلى السلك القضائي بعد خضوعهم لتدريبات عسكرية مكثفة استمرت ستة أشهر داخل منشآت عسكرية، شملت استخدام السلاح، الاصطفاف العسكري، الرياضات العنيفة، فضلاً عن محاضرات في الشؤون الحربية والأمن القومي.

هذا التدريب يُعد سابقة نوعية في العلاقة بين السلطة القضائية والعسكرية، إذ يطرح تساؤلات حول مدى استقلالية القضاء المصري في ظل هذه التدريبات.

دوافع عسكرة السلطات

يُصر قائد الانقلاب العسكري المصري عبد الفتاح السيسي على عسكرة كل السلطات، بما فيها التشريعية والقضائية، تحت ذريعة تأهيل الكوادر المدنية لتكون "مواطنين عسكريين منضبطين" قادرين على مواجهة التحديات الأمنية، خاصة في ظل ما يصفه بـ"حرب الإرهاب" والحاجة إلى تعزيز الوعي الأمني والانضباط داخل مؤسسات الدولة.

كما أن هناك توجهات رسمية لتدريب فئات أخرى من الموظفين المدنيين مثل المدرسين والدعاة والموظفين الحكوميين داخل منشآت عسكرية، مما يعكس فلسفة الدولة في دمج الطابع العسكري في الوظائف العامة.

هذا التوجه قوبل بانتقادات حادة من خبراء القانون الدستوري ومنظمات حقوقية، حيث حذروا من أن تدريب معاوني النيابة داخل منشآت تابعة للسلطة التنفيذية قد يؤثر سلباً على حياد القضاة واستقلاليتهم، ويغير تصوراتهم عن العلاقة بين السلطة والقانون والمجتمع.

مؤسسة دعم العدالة بالمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، برئاسة المحامي الحقوقي ناصر أمين، دانت هذه الخطوة واعتبرتها "انتهاكًا شديدًا لاستقلال القضاء"، مشيرة إلى أن إخضاع السلطة القضائية لتدريبات في جهات تابعة لوزارة الدفاع يهدد مبدأ الفصل بين السلطات.

كما أبدى "نادي قضاة مصر" اعتراضه على إلزام القضاة باختبارات وتدريبات عسكرية في الكلية الحربية، معتبرًا أن مجلس القضاء الأعلى هو الجهة الوحيدة المختصة بوضع الضوابط اللازمة لتعيين القضاة، وأن تدخل الكلية الحربية في هذا الشأن يمثل مساساً باستقلال القضاء.

وقد أظهرت تقارير أن عشرات القضاة المعينين في النيابة العامة ومجلس الدولة رسبوا في اختبارات الكلية الحربية، مما أدى إلى رفض تعيينهم، وهو ما أثار غضباً واسعاً داخل السلك القضائي.

أرقام وأحداث مهمة

  • في فبراير 2025، تم إطلاق استراتيجية النيابة العامة للتدريب بحضور رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي، والتي تهدف إلى تطوير الأداء القضائي وتأهيل مأموري الضبط القضائي، حيث تم تحرير أكثر من 5.6 مليون جنحة في عام 2024، نصفها حصل على براءة، فيما 40% منها قضايا جنائية، مما يؤكد أهمية التدريب المهني للقضاة ومساعديهم.
  • في يوليو 2024، كشف عن رسوب عشرات القضاة في اختبارات الكلية الحربية، وهو ما أثار الجدل حول طبيعة هذه الاختبارات التي تشمل لياقة بدنية وصحية، وأدت إلى رفض تعيين بعض المعينين الجدد في النيابة العامة.

وصف ناصر أمين، رئيس مؤسسة دعم العدالة، التدريب العسكري لمعاوني النيابة بأنه "انتهاك لاستقلال القضاء" و"يهدد حياد القضاة".

وأكد المستشار محمد عبد المحسن، رئيس نادي قضاة مصر، أن "مجلس القضاء الأعلى هو الجهة الوحيدة المختصة بتعيين القضاة" وانتقد تدخل الكلية الحربية في تدريبهم، مطالبًا بإعادة النظر في هذه الإجراءات.

يرى محللون أن عسكرة السلطات تأتي في سياق تعزيز قبضة النظام على مؤسسات الدولة، خاصة في ظل انعدام الحياة السياسية الحقيقية وتجميد النشاط النيابي، حيث بات السيسي هو اللاعب الرئيس الوحيد في المشهد السياسي المصري.

 كما أن القمع الأمني والتضييق على الحريات، إلى جانب القوانين الصارمة ضد التظاهر، تعزز من هذا الاتجاه نحو عسكرة الدولة.

تدريب معاوني النيابة العامة داخل منشآت عسكرية في مصر يمثل تحولًا خطيرًا في العلاقة بين السلطات القضائية والعسكرية، ويثير مخاوف جدية بشأن استقلال القضاء وحياده، خاصة في ظل رفض واسع من قبل السلك القضائي ومنظمات حقوق الإنسان، هذا التوجه يعكس فلسفة الدولة في عسكرة كل السلطات، وهو ما يراه منتقدون محاولة لفرض السيطرة الأمنية على كل مفاصل الدولة، مما يهدد مبدأ الفصل بين السلطات ويضع العدالة المصرية تحت تأثير مباشر للسلطة التنفيذية والعسكرية.