استشهاد قائد، مثل يحيى السنوار، وهو مشتبك وجهاً لوجه مع العدو، يعرّي جبن (وتواطؤ) أنظمة عربية شلّت قدرة جيوشها، لا نقول عن القتال؛ بل على الأقل أن تكون قوة تحمي شعوبها، بعد أن تخلّى النظام العربي الرسمي عن فلسطين. وبذا نجحت إسرائيل، إلى حدٍّ خطير، في ترهيب الشعوب العربية، معتمدةً على أبواق وفضائيات "مثقفين" مهمتهم الهزء من المقاومة وتجريمها فكراً وقولاً وممارسة.
طبيعيٌّ أن نحزن على فقدان يحيى السنوار، الإنسان الفلسطيني الصلب، الذي رفض الإذعان للاحتلال، مصمّماً على المشاركة في تحرير شعبه، حاملاً إرث المقاومة الفلسطينية، من ثورة عز الدين القسام في عام 1936، في ذاكرته وقلبه. ولا يعني ذلك التقليل من فجيعة الشعبين الفلسطيني واللبناني، فحياة قائد، أكان السنوار أو حسن نصر الله، ليست أغلى من حياة أي طفل أو شاب أو كهل في فلسطين ولبنان. لكن المزاودة والاستخفاف بالألم لفقدان قائدٍ اختار الانحياز للمقاومة بدلاً من الاستسلام بحجة أن حياتهم ليست مهمة أو لومهم على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة والتدمير في لبنان الذي يحاكي مجازر غزة هو موقف سياسي غير بريء.
ليسا، حركة حماس وحزب الله فوق المساءلة، أو المحاسبة حتى، لا يحقّ لي المزاودة على أي إنسان في غزّة أو في لبنان فقد عائلته يعبر عن غضبه، أو قد يشتم الحركة والحزب. لكن الحديث هنا عن حملة تسميم الوعي التي تسخِّف كل شيء، في دعوة مستترة أو وقحة إلى الخنوع، وكأن التطبيع مع إسرائيل هبة الله المنتظرة إلى الشعوب. وهناك من ينتظر أن يحتفل بهزيمة حماس وحزب الله، إن كان من منطلق إسلاموفوبي إقصائي بحجّة رفضه الأيديولوجيا الدينية، أو طمعاً في مكاسب مادية، أو، وهذا ينطبق على أنظمة عربية، للتخلص من "عبء القضية الفلسطينية". والأخيرون يجب أن يعلموا أن "العبء" هو إسرائيل وليس الشعب الفلسطيني، وأن "العبء" هو المشروع الصهيوني الذي يرمي، بكل ثقله، منذ أكثر من 75 عاماً على حياة الفلسطينيين، وإذا كان كثيرون منهم لا يعلمون، فليعلموا حقيقة خطر إسرائيل الوجودي على العالم العربي، فالمسؤولون الإسرائيليون، من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، يعلنون صراحة أن هدفهم التوسّع، بل ويهدّدون بضرب كل أرجاء العالم العربي وإيران، فهل يريدون أن يكون الأمر أكثر وضوحاً من ذلك؟
إقناع النفس بأن هذه الدعوات والأمنيات بهزيمة المقاومة ليست أكثر من تصريحات فارغة يطلقها بعض المتطرفين عملية خداع لها، فلا يمكن تنفيذ المشروع الصهيوني وفرض قبول إسرائيل وهيمنتها على المنطقة بدون إخضاع الأنظمة والشعوب العربية، فالمحتلّ لا يحسّ بأمان في أرضٍ سرقها، ولا بد له من محو الذاكرة والهوية الفلسطينية التي هي جزء من الهوية العربية. وهناك من يصدّق التهديدات الإسرائيلية ويوظفها لإقناع الناس بأن مساندة الفلسطينيين تجلب البلاء على الشعب، وهذا ما تريده إسرائيل تماماً.
المشكلة في هذه المقولة أن إسرائيل لا تحترم سيادة أي دولة عربية. وبدلاً من التنسيق، ولا أقول الوحدة، لم يعد هناك جامعة دول عربية بالمعنى السياسي؛ فقد جرى إسقاط مفهوم الأمن القومي العربي حتى قولاً. لذلك، الخطاب السياسي مهم في مواجهة المشروع الصهيوني، ولذا تطلب أميركا تغييرات في المناهج التعليمية والخطاب الإعلامي العربي. الخطاب المقاوم مرفوض من أميركا ومعظم الأنظمة، وليس الحديث هنا عن المقاومة المسلحة، وإنما عن مجرّد التمسّك بالحقوق، أكانت حقوق الأوطان العربية أو الشعب الفلسطيني. ولكن هناك عملية تشويه للوعي ترافق عملياً الرعب الصهيوني مستغلة رغبة المواطن العربي المشروعة بالأمن والأمان، فالجميع يريد أوطاناً مستقرّة خالية من الحروب، فنرى حتى الأكثر تعاطفاً مع فلسطين وحتى المقاومة، ممن يتمنون أن تنتصر، يخشون أن تصل الحرب إلى أبوابهم، فيختاروا عملياً الرغبة في الاستقرار على مواجهة الأنظمة.
كان هذا متوقّعاً إلى حد كبير، فحين تبدأ دول غنية بالنفط موغلة في التطبيع تأخذ دوراً ابتزازياً باستعدادها لتمويل مشاريع لحل أزمة المياه مثلاً أو اتفاقيات في مجال الطاقة والثروات الطبيعية على أن تكون بمشاركة إسرائيلية، كما حدث مع الأردن، فهذا ليس له سوى اسم آخر هو تسهيل هيمنة إسرائيل وتمكينها.
يجد المواطن العربي نفسه يصمت خوفاً من تقويض الاستقرار في بلاده، حتى إن بعض الناس يعتقدون أن المعاهدات مع إسرائيل تقي الشعوب "الجرائم الإسرائيلية". والمشكلة هنا أن إسرائيل لم تحترم لا اتفاقياتها مع مصر ولا الأردن، فعيْن إسرائيل على الأردن مهما حاول الملك عبد الله الثاني المضي بسياسة توازن غير مضمونة. وبدلاً من فتح حوارات وإفساح المجال لمشاركة سياسية حقيقية، تلجأ الحكومة الأردنية إلى تكميم الأفواه والاعتقالات، (جرى إطلاق سراح بعض المعارضين السياسيين وإنْ بكفالة)، ونرى شباباً، مثل عامر قواس وحسام أبو غزالة، وقبلهما ماهر الجازي، يختارون الاستشهاد في عمليات فردية ضد الإسرائيليين، فالغضب يفيض والخوف على الأردن يزداد عمقاً.
الأسوأ أن الأنظمة تبرّر تواطؤها؛ والذي يدفعها إلى تعميم ثقافة الاستسلام والخنوع، باسم الواقعية، فيصبح المقاوم "مجرماً" والعميل والمتخاذل "واقعياً". فيما نقد المقاومة مفهوم، بل ومطلوب، لكن شيطنة المقاومة تكاد تقترب من العمالة، وما لا يفهمه أبواق الاستسلام والخنوع أن هناك أجيالاً تشهد وتشاهد بطولات المقاومة، فالشباب والطلبة العرب، وكثيرون منهم في الجامعات الأميركية والغربية، ينظرون إلى يحيى السنوار بفخر نموذجاً للشجاعة، وأغلبهم فُجعوا باغتيال يحيى السنوار ونصر الله، بل ويقارنون بين نموذجيهما ونماذج الجُبن. لن ينضم أغلب هؤلاء إلى المقاومة المسلحة، لكنهم يتسلحون بفكر تحرّري يرفض الهيمنة الاستعمارية المباشرة، ونرى ذلك بين شباب وشابات عرب، قد لا نسمع أصواتهم، لكن حرب الإبادة والمقاومة شكّلت صحوة وعي لهم.
يرى كثيرون في الأردن في ماهر وعامر وحسام أبطالاً، ويشعرونهم باستعادة بعض الكرامة، لا يعني ذلك أنهم سيتبعونهم، وإنْ ليس مستبعداً أن نشهد عمليات مماثلة، لكن هناك إحساساً دفيناً برفض الإهانات التي توجّهها إسرائيل إلى الأردن باستمرار. وهناك حزن موجع على مشاهد الدم والأشلاء المتناثرة في فلسطين وفي غزّة وفي لبنان، وهنالك شعور قاتل بالعجز، لا يقصُر على الأردن، يجعل الناس يفهمون دوافع الشباب الثلاثة ويتفاعلون معها.
قال لي شابٌّ يوم إعلان استشهاد يحيى السنوار: هل تصدقين أنني كنت أحلم أن أسمع خطاب النصر من السنوار؟.. ليس هذا الشاب ساذجاً، بل ذكي ويفهم موازين القوى، لكنّه يريد أن يحلم وهو يبحث عن نموذج وعن أمل... لمن لا يريدون أن يفهموا لماذا نحزن على استشهاد قائد مشتبك وجهاً لوجه مع جيش الاحتلال، هل تفهمون الآن؟