في مقالته المعنونة "ما الذي خسرته إسرائيل.. وكيف يمكنها استعادة تفوقها الاستراتيجي"، المنشورة على صفحات مجلة فورين أفيرز الأمريكية (Foreign Affairs) في 5 أكتوبر 2024، نبه الباحث والكاتب الإسرائيلي أري شافيت إلى خطورة الاعتماد المتزايد على الولايات المتحدة؛ على نحو ما حدث مع حكومة سايغون الفيتنامية الجنوبية، التي أطيح بها في العام 1975 على يد القوات الشمالية وثوار الفيتكونغ الفيتناميين، مؤكدا أن رئيس حركة المقاومة الفلسطينية حماس الراحل، يحيى السنوار، كان يعول على السيناريو الفيتنامي بحسب زعم شافيت، منذ لحظة إطلاق هجوم السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى).

النموذج المقترح يعكس قدرا كبيرا من التفاؤل لدى شافيت، فالفيتناميون الجنوبيون ينتمون إلى فيتنام ثقافيا وعرقيا وجغرافيا، خلافا للإسرائيليين الذين لا تربطهم صلة بفلسطين أو بالمنطقة العربية، فمن رحل مع القوات الأمريكية في فيتنام ومن قبل في أفغانستان العملاء فقط، وبقي الأفغان والفيتناميون في بلادهم. وفي الحالة الإسرائيلية، فإن مواطني الكيان الإسرائيلي وجلهم مستوطنون قدموا من أوروبا وأنحاء متعددة من العالم، وينطبق عليهم واقع المستوطنين الفرنسيين والأوروبيين في الجزائر، الذين عرفوا باسم الأقدام السوداء (pieds noirs).

النموذج الجزائري هو الحاضر الحقيقي في المعركة الدائرة بين الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، ومن يسنده من الشعوب العربية والإسلامية التي تمثل عمقا للفلسطينيين، وبين الكيان المحتل وداعميه، وهي مقاربة تزداد واقعية مع توسع الاشتباك نحو لبنان واليمن والعراق وإيران.

النموذج الجزائري هو الحاضر الحقيقي في المعركة الدائرة بين الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، ومن يسنده من الشعوب العربية والإسلامية التي تمثل عمقا للفلسطينيين، وبين الكيان المحتل وداعميه، وهي مقاربة تزداد واقعية مع توسع الاشتباك نحو لبنان واليمن والعراق وإيران. فدعم المقاومة بات ظاهرة مشابهة لما قامت به مصر بدعم الثورة الجزائرية في العام 1954، ليكلفها عدوانا ثلاثيا في 29  أكتوبر من العام 1956 من قبل فرنسا وبريطانيا والكيان الإسرائيلي.

رحل المستوطنون الأوروبيون والفرنسيون الذين عُرفوا بالأقدام السوداء (pieds noirs) من الجزائر في العام 1962، بعد هزيمة وفشل ساحق للمحتل الفرنسي، الذي أرهقته الحرب الممتدة لأكثر من عشر سنوات، والكيان الإسرائيلي يسير على ذات الخطى التي سارت عليها الأقدام السوداء الفرنسية في الجزائر.

فالنموذج الإسرائيلي الاستيطاني الأنجلوسكسوني (البريطاني- الأمريكي) في فلسطين بات أقرب للنموذج الاستعماري الفرنسي في الجزائر، من الفيتنامي الذي وصفه شافيت، فالاستعمار الفرنسي كان شعاره "ليكن الاحتلال فرنسيا، لكن الاستيطان يجب أن يكون أوروبيا"، وهو الحال ذاته الذي انتهى إليه المشروع الاستيطاني الأنجلوسكسوني في فلسطين، فالاحتلال بات أمريكيا والاستيطان أوروبيا أمريكيا، يهودي الديانة إنجيلي الغايات والمآلات العقدية، وهو خليط يستحق بأن يوصف بالأقدام السوداء الإسرائيلية (Pieds noirs israéliens).

المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، يخوض معركته منذ السابع من تشرين الأول/ كتوبر 2023 بيأس، وهو يوسع المعركة دون أفق لحسم عسكري أو سياسي، وهو خيار يقود للاستنزاف ويُسهم في تآكل قدراته الاقتصادية والمؤسسية. فالأقدام السوداء الإسرائيلية (Pieds israéliens) التي عولت عليها أمريكا وأوروبا لفرض السيطرة على المنطقة، تحولت إلى عبء مكلف، كحال الأقدام السوداء الأوروبية (Pieds Noirs) في الجزائر.

التورط العسكري الأمريكي بات مكشوفا على نحو غير مسبوق عبر جنود على الأرض وفي السماء والبحر، وعبر أداء سياسي يقدم الغطاء السياسي والعسكري للإبادة الجماعية للفلسطينيين، بنزع الإنسانية عنهم وعن داعميهم؛ كان آخره ما قام به وزير الخارجية الأمريكي بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستين ضرورة بإعطاء الاحتلال فرصة لشحذ سلاح التجويع، المستخدم ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، يخوض معركته منذ السابع من كتوبر 2023 بيأس، وهو يوسع المعركة دون أفق لحسم عسكري أو سياسي، وهو خيار يقود للاستنزاف ويُسهم في تآكل قدراته الاقتصادية والمؤسسية. فالأقدام السوداء الإسرائيلية (Pieds israéliens) التي عولت عليها أمريكا وأوروبا لفرض السيطرة على المنطقة، تحولت إلى عبء مكلف، كحال الأقدام السوداء الأوروبية (Pieds Noirs) في الجزائر، التي استنزفت فرنسا في حرب تحرير طويلة ومكلفة، بعد أن كانت تعول عليها لتبيت نفوذها في الجزائر لتشكيل عمق استراتيجي لها في القارة الأفريقية، بما يحفظ عظمتها ومكانتها كقوة عالمية.

ختاما.. الجزائر باتت النموذج الفعلي للمواجهة، وأمريكا باتت فرنسا، والإسرائيليون باتوا أقداما سوداء (Pieds Noirs) يعدون أنفسهم للرحيل تارة، وللحرب تارة أخرى، يبحثون عن خلاصهم بتوسعة الحرب وضم أمريكا إليها، وفي الآن ذاته، البحث عن جنسية ثانية وموطئ قدم في أوروبا وأمريكا. فهل ينجح خيار الحرب وتوسعتها في إنقاذ الكيان، أم يفاقم أزمته كما فاقم أزمة المستوطنين الأوروبيين في الجزائر؟ إنه سؤال أجاب عنه التاريخ من قبل في الجزائر، ويبدو أنه قادر على الإجابة عنه مرة أخرى بذات الكفاءة في حيفا ويافا.