حاز الشهيد يحيي السنوار مكانة خاصة في قلوب المصريين على مختلف اتجاهاتهم، وتدفقت مشاعر الحزن على استشهاده بصورة تجاوزت محاذير السياسة من جهة، وفاجأت المتصهينين المصريين من جهة أخرى، حتى إن أحدهم وهو من متطرفي أقباط المهجر كتب على حسابه الشخصي أن "هذا الحزن الشديد في الشارع المصري حد المناحة يجعلني أفقد الأمل في هذا البلد تماما".

رغم أن الحكومة المصرية لم تصدر بيان عزاء، إلا أن المؤسسة الدينية الأكبر في مصر والعالم الإسلامي (الأزهر الشريف) بادرت بإصدار بيان مطول، ورغم أن البيان خلا من اسم السنوار وهو ما يؤخذ عليه، إلا أنه تضمن نعيا لكل شهداء المقاومة "الذين طالتهم يد صهيونية مجرمة، عاثت في أرضنا العربية فسادا وإفسادا، فقتلت وخربت، واحتلت واستولت وأبادت أمام مرأى ومسمع من دول مشلولة الإرادة والقدرة والتفكير، ومجتمع دولي يغط في صمت كصمت الموتى في القبور، وقانون دولي لا تساوي قيمته ثمن المِداد الذي كتب به".

وأضاف الأزهر في بيانه أن "شهداء المقاومة الفلسطينية كانوا مقاومين بحق، أرهبوا عدوهم، وأدخلوا الخوف والرعب في قلوبهم، ولم يكونوا إرهابيين كما يحاول العدو تصويرهم كذبا وخداعا، بل كانوا مرابطين مقاومين متشبثين بتراب وطنهم، حتى رزقهم الله الشهادة وهم يردون كيد العدو وعدوانه، مدافعين عن أرضهم وقضيتهم وقضيتنا؛ قضية العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها".

بيان الأزهر فتح الباب أيضا لظهور بيانات عزاء من شخصيات دعوية ذات جمهور واسع سواء من التيار السلفي أو الصوفي، وهما التياران الأكثر تحفظا تجاه المقاومة الفلسطينية لأسباب متباينة.

كان البيان الأقوى في كلماته هو الذي صدر عن نقابة الصحفيين التي قالت إن السنوار "استشهد في ميدان الشرف وهو يقاوم الاحتلال"، منددة بالصمت العربي والتواطؤ الغربي، ومجددة موقفها برفض كل أشكال التطبيع مع الكيان، وضرورة قطع العلاقات المصرية والعربية معه.

وقد توالت بيانات العزاء في القائد الشهيد من نقابات مهنية أخرى مثل المحامين ومن بعض الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، بل ظهرت إعلانات من بعض المواطنين عن إقامتهم بيوت عزاء للشهيد.

منذ توليه موقعه كرئيس لحركة حماس في غزة مطلع العام 2017 دشن السنوار سياسة جديدة تجاه نظام السيسي الذي كان يصنف حماس حركة إرهابية، ويتهمها باقتحام السجون في الأيام الأولى لثورة 25 يناير 2011، وبدعمها للإرهاب في سيناء، وقد لفق قضية كبرى تحت مسمى التخابر مع حماس شملت عددا كبيرا من المتهمين على رأسهم الرئيس الشهيد محمد مرسي، وظلت العلاقات متوترة بين حماس والقاهرة حتى تولى السنوار موقعه فدفع باتجاه مراجعة العلاقة مع النظام المصري، واستقبل كبار قادة المخابرات العامة وعلى رأسهم رئيسها (في ذلك الوقت) عباس كامل والمختص بالملف الفلسطيني أحمد عبد الخالق.

مع اندلاع طوفان الأقصى ومن بعده الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة حاول المصريون التعبير عن تضامنهم مع أشقائهم، لكن السلطات المصرية حاولت تفريغ الغضب الشعبي عبر مظاهرة دعت لها رسميا بعد أسبوعين من الطوفان

تجاوزت حماس الأزمة بين نظام السيسي والإخوان، وتفهم الإخوان ذلك لصالح القضية الفلسطينية، ورسمت القاهرة صورة جديدة عن قائد حماس الجديد في غزة أسهمت في تحسين العلاقة بشكل سريع، وهو ما انعكس على حركة التجارة والتنقل عبر معبر رفح رغم تعدد مرات إغلاقه.

توقفت اتهامات الإعلام المصري المحسوب على السلطة عن ترديد الاتهامات ضد حماس، وتعددت زيارات وفود حماس إلى القاهرة بل أصبح لها وجود دائم في ما يشبه مكتبا للحركة.

تعتبر القاهرة دوما أن الملف الفلسطيني هو ملفها الذي لا تريد أن يشاركها فيه أحد، وهذا يقتضي منها علاقة طيبة بكل الأطراف الفلسطينية حتى تستطيع ممارسة دورها في الوساطة؛ سواء بين الفصائل أو بينها وبين سلطات الاحتلال الصهيوني، وقد كان السنوار نفسه أحد ثمار صفقة تبادل أسرى عقب ثورة يناير برعاية مصرية، واستمرت الوساطات المصرية في كل الأزمات الفلسطينية اللاحقة بعد وصول السنوار لرئاسة الحركة في غزة.

مع اندلاع طوفان الأقصى ومن بعده الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة حاول المصريون التعبير عن تضامنهم مع أشقائهم، لكن السلطات المصرية حاولت تفريغ الغضب الشعبي عبر مظاهرة دعت لها رسميا بعد أسبوعين من الطوفان (20 أكتوبر 2023) ثم منعت أي تظاهر بعد ذلك، بل اعتقلت العديد من الشباب الذين شاركوا في مظاهرة موازية يوم 20  أكتوبر، وتم اعتقال آخرين حاولوا تنظيم بعض المظاهرات لاحقا ومنها مظاهرة على سلالم نقابة الصحفيين في الجمعة الأخيرة لشهر رمضان الماضي، ولا تزال أعداد من هؤلاء الشباب رهن الحبس الاحتياطي حتى الآن.

رغم العلاقة الجيدة التي ربطت الشهيد السنوار بالسلطات المصرية وخاصة جهاز المخابرات المختص بالملف الفلسطيني، إلا أن القاهرة لم تصدر بيان عزاء في استشهاده تجنبا لإغضاب الحكومة الإسرائيلية.. لكن الشعب المصري لم يُخف حزنه على الشهيد، وعبر عنه بالطرق المتاحة

وعلى المستوى الرسمي أغلقت السلطات المصرية معبر رفح في وجه حركة المساعدات بحجة رفض الطرف الإسرائيلي دخولها رغم أن إدارة المعبر حصريا بين المصريين والفلسطينيين، ورفضت مصر تهجير أهالي غزة إليها، وإن سمحت بدخول عدة آلاف لدواعي العلاج أو السفر، ولكنها فرضت رسوما باهظة عليهم من خلال شركة تابعة للمخابرات يديرها رجل الأعمال السيناوي إبراهيم العرجاني.

على مدى عام من الحرب انقطع الاتصال المباشر بين القاهرة والسنوار لاعتبارات أمنية تخصه، وظل التواصل مع قادة الحركة في الخارج، ولعبت القاهرة دور الوسيط بالشراكة مع الدوحة وواشنطن، بينما كان المصريون يطالبون حكومتهم بتقديم الدعم اللازم للمقاومة ولأهل غزة، وعدم الاكتفاء بدور الوسيط تماما كما تفعل الولايات المتحدة التي تقدم كل المساعدات العسكرية والمالية والوجستية للكيان وفي الوقت نفسه تقوم بدور الوساطة.

رغم العلاقة الجيدة التي ربطت الشهيد السنوار بالسلطات المصرية وخاصة جهاز المخابرات المختص بالملف الفلسطيني، إلا أن القاهرة لم تصدر بيان عزاء في استشهاده تجنبا لإغضاب الحكومة الإسرائيلية.. لكن الشعب المصري لم يُخف حزنه على الشهيد، وعبر عنه بالطرق المتاحة، حتى إننا نتابع على صفحات التواصل الاجتماعي صورا لأطفال صغار يقلدون فيها جلسة الشهيد على كرسيه واضعا ساقا على ساق، ولن يكون مستغربا أن يُقبل المصريون على تسمية مواليدهم الجدد باسم يحيي تيمنا بالشهيد وتخليدا له أيضا.

هذه الحالة لم تقتصر على المسلمين بل شملت شخصيات مسيحية (كبارا وشبابا)؛ عبروا عن حزنهم أيضا، وقدموا تعازيهم، وأكدوا دعمهم للمقاومة ورفضهم للاحتلال الإسرائيلي، وإن لم يكن ذلك موقف الكنيسة التي لم يصدر عنها بيان حتى الآن.

حالة الحب والانبهار بالشهيد السنوار في مصر هي جزء من حالة عامة عمت ربوع العالمين العربي والإسلامي، بل شملت جميع الأحرار في العالم، هذه الحالة تعد بحد ذاتها تجديدا وتوكيدا للثقة في المقاومة الفلسطينية وقادتها الميدانيين والسياسيين، لكنها لا ينبغي أن تتوقف عند حالة الانبهار، أو الدعم المعنوي.