لم يكن ميلاده ﷺ ميلاد رجل عادي أو نبي زماني أو مكاني لأمة ما في زاوية أرضية، بل كان ميلاده ميلاد دنيا جديدة وبشرية فريدة وحياة نابضة، وكونٌ بأسره تفتقت إبداعاته بنوره وتغيرت معالم الحضارات فتشكلت على هديه ورسمه، وما زالت تأخذ منه الأفراد والمؤسسات والدول والمجتمعات من نور هديه ومن سبحات نظامه وحركته سواء من اعترف منهم بنبوته وأقر أو من وارى وأخفى وتكبر.
لقد تكلم الجميع عن مولده وانبرى كل قلم يسجل مفاوزه، ويخط مآثره، ويرسم ملامحه الحياتية من شعر ونثر وسيرة ومقال، لكن غلب على الجميع في طرحه الجمع بين المولد والبعثة فجعلهما واحد وانطلقوا في مولده يعددون مآثر ومرتكزات محمد الرسول ﷺ بعد بعثته وهم يحتفلون بمولده، وهذا لعمري بخس لأربعين عاماً مهمة كانت محملة بتكوينات نورانية ومبددة لظلمات جاهلية ومؤسسة لنظام حضاري فريد قام به فرد أصبح بعدها شمس الدنيا وظل الآخرة.
وفي هذا المقال مذكراً بالملامح المهمة لمحمد المولود والفتى والشاب والزوج والمجتمعي، محمد ﷺ الأمة من مولده لبعثته ماذا بنى من أبنية العدل والنور؟! وماذا هدم من أفنية الظلم والظلام؟!
أولاً: التمهيد الزمني الطويل للميلاد النبيل:
مما يجب التنبيه الدائم عليه في ذكرى ميلاده ﷺ أنه قد مهد له من سبقه من إخوته من الأنبياء والمرسلين ذكراً ودعاء وبشارة، وحدثوا أقوامهم عنه حديثاً ينبئ بأهميته الشخصية، ويؤكد رسالته الخاتمة ويعظم أمره للاقتداء والاتباع، ويرسخ دعوته الخاتمة التي تقود البشرية إلى النهاية، ومعروف في أبجديات التخطيط والعمل أن التمهيد للشيء تأكيد على عظمه ولفت للانتباه إليه وبيان أنه الأصل الذي لا غناء عنه ولا نجاح بدونه، فعند أحمد عَنِ الْعِرْبَاضِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنِّي عِنْدَ اللهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ تَرَى أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ».
ثانياً: اليسر واللين رفيقاه من بداية التكوين:
نعم فقد حملت لنا كتب السير كيف كان حمله وولادته وصباه وشبابه حتى بعثته، بل حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقد ذكرت الروايات أن آمنة أم النبي ﷺ لم تلق شيئاً من متاعب الحمل والولادة، بل كانتا ميسرة جداً ولينة، وكأن اليسر واللين أول من ناله منه ﷺ هو أمه، فلم يتعبها بل يسر عليها.
ولقد صاحبه هذا اللين في مراحله وازداد معه اتساعاً وتفعيلاً مع أنوار بعثته، كما عند ابن سعد عن عَلِيّ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ وَهْبِ عَنْ عَمَّتِهِ: «كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا حَمَلَتْ بِهِ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ كَانَتْ تَقُولُ: مَا شَعَرْتُ أَنِّي حَمَلْتُ بِهِ، وَلا وَجَدْتُ لَهُ ثُقْلَةً كَمَا تَجِدُ النِّسَاءُ، إِلا أَنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ رَفْعَ حَيْضَتِي وَرُبَّمَا كَانَتْ تَرْفَعُنِي وَتَعُودُ، وَأَتَانِي آتٍ وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ فَقَالَ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكِ حَمَلْتِ؟ فَكَأَنِّي أَقُولُ مَا أَدْرِي، فَقَالَ: إنك قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا، وَذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، قَالَتْ: فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقَّنَ عِنْدِي الْحَمْلَ».
ثالثاً: البركات المادية والمعنوية تتماشى معه وتنزل بمحيطه:
نسمة مباركة كما جاء في الحديث، وكأن البركة لا تجتمع إلا عنده ولا تفيض إلا بمحيطه شهد على ذلك كل من خالطه ورأى بركته بداية من مرضعته حليمة التي قَالَتْ: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ جَعَلْتُهُ فِي حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيِي بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ اللَّبَنِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبَ أَخُوهُ -يَعْنِي ابْنَهَا- حَتَّى رَوِيَ، وَقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا بِهَا حَافِلٌ فَحَلَبَهَا مِنَ اللَّبَنِ مَا شِئْنَا، وَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِيتُ، وَبِتْنَا لَيْلَتَنَا تِلْكَ شِبَاعًا رُوَاءً، وَقَدْ نَامَ صِبْيَانُنَا، يَقُولُ أَبُوهُ يَعْنِي زَوْجَهَا: وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ مَا أُرَاكِ إِلَّا قَدْ أَصَبْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً..» (رواه ابن حبان).
وقد نزلت بركته في أرضهم وعمت في أنحائهم ولما انتقل من ديار بني بكر ونزل بأسرته سرت معه وفاض الخير لكل من جاوره ولقد يؤثره عمه بما رأى من سوق الخير على يديه ومزيد الفيض الإلهي إليه، وحتى زوجه خديجة في بركة المال وزيادة النعيم والأحوال.
رابعاً: الحياة العملية المبكرة الدالة على النبوغ والنضوج:
فهو ليس كغيره من أقرانه وأبناء سنه، بل تولى الأعمال الشاقة وجنح إلى الحياة العملية منذ بلغ ليحمل مسؤوليته تجاه دنياه وليستكمل بها ترسيخ قيمه وفهمه من تجارب الحياة، فاشتغل بالرعي كما اشتغل به من سبقه من أخوته الأنبياء، كما عند البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ»، وعمل بالتجارة مع عمه وزوجه، والأولى تعلم السياسة والمراقبة والصبر والتفكر فيجلو بها بصره وبصيرته ويقوى بها فؤاده وعقله، والثانية تنقل له في وقت قصير خبرات وأعراف وتعلمه المعاملة وكسب الآخر وتجلي له طبائع الناس ومناط اهتمامهم وتفكيرهم، كما أنها تؤسس فيه التربية على الكسب واليد العليا التي تضمن له حياة دنيوية عالية لا يتطرق إليها فقر مقعد ولا تطلع مفسد.
خامساً: النقاء الكامل من أدناس الجاهلية ورجسها:
نقاء يستدعي وقفة مهمة لشاب ولد في بيئة تجمع المتناقضات، ففي بيت الله الحرام والناس يوفدون إليها ومع ذلك مليئة بالشركيات والمعاصي والآثام والفتن والمضلات، قلما ينجو منها أحد، ومن نجى من خبث بعضها لم ينج من بقيتها إلا هو، فما ألمَّ بمعصية فيها ولا في غيرها، فلا دنو من صنم ولا أكل من ذبيحة لغير الله ولا خمر ولا نساء، نقاء كامل وطهارة كاملة، كما عند ابن حبان عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا».
سادساً: المشاركة المجتمعية في كل فضيلة وعدالة:
فقد كان أحد الذين عالجوا زمزم مع عمه ورفع معهم الحجارة، وشهد مع شيوخ قريش حلف المطيبين الذي يرفع قيمة العدل والأنصاف وبني على رد الحقوق ومساعدة المظلوم وارتفاع القيم، حتى إنه أكد عليه بعد بعثته وحبذا لو دعي إليه ليجيبه، فعند الطحاوي: عن رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، يَعْنِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَعَلَى حِلْفِ الْفُضُولِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «شَهِدْتُ حِلْفًا فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ: بَنِي هَاشِمٍ، وَزَهْرَةَ، وَتَيْمٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَخِيسَ بِهِ وَإِنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ»، قَالَ: «وَكَانَ مُحَالَفَتُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ لَا يَدَعُوا لِأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ فَضْلًا إِلَّا أَخَذُوهُ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ».
سابعاً: الثبات الأخلاقي والقيمي:
فقد عرف بالصدق والأمانة معرفة جُرب فيها وخُبر طولها وتزايدت وتيرتهما مع تصاعد العمر، فعرف بالأمين والصادق، وهذه معرفة تصدرت بقية الأخلاق فيه، إذ هما بوابة كل خلق، أما الصدق فبوابة الأخلاق القلبية وترجمان المعاملة اليومية، وأما الأمانة فبوابة أعمال الجوارح من عين ولسان ويد وقدم، إذاً مناط الأمانة فيهما أبلغ وأبين وما بعدها من أخلاق الجوارح أمكن وأشد.
ثامناً: الارتباط الزواجي المبني على حسن الاختيار:
ليس من السهل أن تجد شاباً يتزوج بالمرأة الأسن منه، إلا ويحمل فهماً وغاية يبحث عنها، ولا ينظر تحت هذا من دنايا الأشكال والأعراف، فإذا وجد المراد فثم البغية والغاية، وما أجمل اختيارات النبي في أزواجه وخديجة أولهما، ذكر من جمالها ما يبين طبيعة البيت النبوي: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ».
تاسعاً: القيادة الحاكمة الرشيدة:
التي تربت على جمع الكلمة ولم الشمل وتجميع الصف ووضع الحلول للمعضلات الحياتية ونبذ وإطفاء كل شعلة لفتنة أو نار لفرقة، فها هو رسول الله ﷺ يحكم بين قبائل قريش في أمر نزل بها وكاد أن يفتك بجميعهم عندما اختلفوا بعد بناء الكعبة على شرف من ينال وضع الحجر من بينهم، كما عند ابن هشام: فَكَانَ أولَ دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رسولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا رَأوْه قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ، رَضِينا، هَذَا محمدٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَيْهِمْ وَأَخْبَرُوهُ الخبرَ قَالَ ﷺ: «هَلُمّ إليَّ ثَوْبًا»، فَأُتِيَ بِهِ، فَأَخَذَ الركنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: «لِتَأْخُذَ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنْ الثوْب، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا»، فَفَعَلُوا: حَتَّى إذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هو بيده، ثم بنى عليه.
عاشراً: التنقل بين الاختلاط المحمود والخلوة المنقية:
فهو الذي رفع لواء المخالطة في خدمة الناس على تنوع رائع في أبوابها كما قالت السيدة خديجة: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وكلها أمور عظيمة لا يقوم بها إلا صاحب النور الذي يبدد ظلمات هذا الأشياء عن أصحابها وفي نفس الوقت يخلو ليتعرف على ربه ويتزود بما يفتح من أسرار معرفته: «فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ، اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا».