محمد عوض
من علماء الأزهر الشريف

 

كثيرة هي العلل والأمراض المهلكة تلك التي يتصدى المصلح لإصلاحها وتغييرها بالتعديل أو الاستبدال منطلقا من أن:"..اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً".


وهو حين يفعل – قياما بواجب النصح والإعذار – قد يتوهم أنه بالغ غايته النبيلة تلك بالخطابة البليغة أو الكتابة الرصينة وحدهما وما هو ببالغها.


لا يعني ذلك بداهة التقليل من شأن الكلمة منطوقة أو مكتوبة – والقلم أحد اللسانين – خصوصا ونحن نقرأ في القرآن الكريم توجه الخطاب بـ{قُلْ} يتكرر (6263) مرة!! ذلك أن الفهم أو التصور الصحيح يقود إلى القول والعمل الصحيح، إنما نعني أن تأثير القول - مهما كانت فصاحته - في التغيير تأثير محدود إن لم يتحول إلى واقع محسوس، ومن هنا حَفَل القرآن الكريم بالقصص لأنه يصور تفاعل الواقع مع المثاليات سلبا أو إيجابا.


الأنبياء ليسوا استثناء!!


والتأثر والتأثير بـ"المُعاينة" فطرة إنسانية لا استثناء فيها حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.


فـ"الخليلُ" عليه السلام مع إيمانه بـ"إحياء الله الموتى" سأل ربه سبحانه وتعالى عن "كيفية" هذا الإحياء: {.. رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى..} ولم يكن سؤاله "يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره، ولا طلباً للبرهان أو تقويةً للإيمان.. إنما هو أمر آخر، له مذاق آخر.. إنه أمر الشوق الروحي، إلى ملابسة السر الإلهي، في أثناء وقوعه العملي.".


لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ


وما إن ترك موسى - عليه السلام - قومه مبادرا إلى الطور ليكلم ربه حتى عبدوا العجل، وقد أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري، فماذا كان رد فعله على هذا الإخبار من أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى؟ ثم ماذا كان رد فعله حين عاين وشاهد عبادة قومه للعجل؟


الحالة الأولى قابلها - عليه السلام - بالغضب والأسف: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا..}.طه


أما حالة المشاهدة والمعاينة فقد قابلها بذهول وغياب عقل ألقى معهما "الألواح" أرضا ممسكا بر أس أخيه يجره إليه: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} الأعراف


والفرق بين موقفه في الحالتين يلخصه الحديث: "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ" وفي رواية: "لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ".


الدواء على قدر الداء

ولئن قبل القول وسيلة لتغيير أخطاء سطحية فإنه بمفرده لا يجدي نفعا مع العلل والمناكير المتجذرة في الأنفس والمجتمعات حتى يقترن به الفعل والتطبيق كما كان منهج القرآن الكريم في إبطال "التبني".


قال الله عز وجل: {.. وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ..} الأحزاب. وكانت الآيتان كافيتين في القضاء على هذه العادة التي تعارف عليها المجتمع آمادا بعيدة، لكن الله تعالى أراد مع ذلك أن يُبطَل هذا العرف بالنموذج والمثال العملي الذي يُحتذي، وأن يكون هذا النموذجُ شخصَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:{.. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) } الأحزاب.


الأفعال دائما أقوى


ولأن الأفعال دائما أقوى من الكلمات في سرعة التغيير الإيجابيي فإن لها نفس الدور والوظيفة في التغيير السلبي أيضا، ومن ذلك ما حكى القرآن عن جماعة من أهل الكتاب أرادوا أن يُخرجوا بعض المسلمين من إسلامهم، وكانت وسيلتهم في ذلك عملية محضة، تتلخص في أن يظهروا الإيمان بمحمد في أول النهار ثم يكفروا به آخره، ليظهر للمسلمين الشكُ في دينهم فيرجعون عنه إلى دين أهل الكتاب، ويقولون إن أهل الكتاب أعلم به منا: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} آل عمران.


وأخيرا ... فإن تفاعل الناس مع الإصلاح لا يختلف في قليل ولا كثير عن تفاعل أبناء هذا الطائر:


مَشَى الطاووسُ يوماً باعْوجاجٍ ... فقلَّدَ شكلَ مِشْيَتِهِ بنوهُ
فقالَ علامَ تختالونَ ؟ قالوا ... بدأْتَ به ونحنُ مقلِّدوهُ
فخالِفْ سيركَ المُعْوَجَّ واعدلْ ... فإنَّا إن عدلْتَ مُعَدِّلُوهُ


املأ الدنيا ضجيجا داعيا إلى الفضائل ناهيا عن الرذائل، غير عابئ بصناعة المثال أو الأسوة.


هذا خيارك وهذا شأنك!!

لكن صدقني .. آنذاك لن يسمعك أحد.