كانت في إبريل 1996 ، و كنت آنذاك بالمنزل ، و كعادة هؤلاء السفلة (المجرمين ) ، خدم النظام البائد تم تكسير الأبواب و تحطيم الأثاث و تمزيق الفراش و ترويع الأطفال و استخدام السباب( الفاحش ) الخادش للحياء ، و الاستيلاء على (كل ) المبالغ النقدية الموجودة ، والكتب وشرائط الفيديو و الكاسيت .
ثم تم اقتيادي إلى مقر جهاز مباحث أمن الدولة بالمحلة الكبرى حيث تم التحقيق معي بواسطة ضابطي أمن الدولة ( محمد عيسى ) و ( محمد نجيب ) .
و قد تعرضت للتعذيب على أيديهم ، ثم تم ترحيلي إلى جهاز أمن الدولة بطنطا و منها إلى نيابة أمن الدولة بالقاهرة حيث تم عرضي أنا و ثلاثة عشر فرداً من الإخوان ـ قابلتهم هناك ـ على نيابة أمن الدولة .
وهم : (الأستاذ محمد مهدي عاكف ، والحاج حسن جودة (رحمه الله) ، والحاج محمود أبو رية (رحمه الله) ، والأستاذ الدكتور محمود العريني ، والأستاذ الدكتور عبد الحميد الغزالي ، الأستاذ محمد عبد الفتاح بدوي ، والأستاذ الدكتور رشاد بيومي ، والأستاذ الدكتور جمال عبد الهادي ، والأستاذ الدكتور عصام حشيش ، والمهندس أبو العلا ماضي و الحاج عبد العظيم المغربي (رحمه الله) ) ، و لم نعرف كالعادة القرار إلاَّ بعد ذهابنا إلى سجن في منطقة طره ، حيث مكثنا فيه أنا وبقية إخواني داخل زنزانة انفرادية مظلمة و سيئة التهوية ، و لا يوجد بها أي فتحات ، و لا تتجاوز مساحتها 3.5×4 متر ، و لا يوجد بها حمام .
كان معظم من معنا من كبار السن ، تتجاوز أعمارهم السبعون عاما ، وقد تعرضوا لاختناق من سوء التهوية ، حتى كادوا يلفظوا أنفاسهم ، ثم تم نقلنا بعد ليلة طويلة جدا إلى سجن مزرعة طره و مكثنا به حوالي ثلاثة أسابيع ، قبل أن نفاجئ بتحويلنا إلى النيابة العسكرية بقرار من (المجرم) حسني مبارك بدون أي سند من قانون أو دستور أو شرع أو أخلاق ، ثم حولنا إلى المحكمة العسكرية التي قضت بسجننا ثلاثة سنوات بعد محاكمة هزلية بدون دفاع .
وكان من حكم عليهم معي في هذه القضية : الأستاذ / محمد مهدي عاكف ، الأستاذ / محمد عبد الفتاح بدوي ، الأستاذ الدكتور / عبد الحميد الغزالي ، الأستاذ الدكتور/ محمود العريني، الأستاذ محمود أبو رية ، الحاج حسن جودة .
فيما تم إخلاء سبيل الباقيين .
و قضينا هذه السنوات الثلاث بسجن ملحق مزرعة طره بعد نقلنا من سجن المزرعة لنلحق ببقية إخواننا هناك ، والذين سبقونا إلى السجن بعد محاكمات عسكرية أيضا حكم عليهم فيها بأحكام قاسية تراوحت بين ثلاثة سنوات وخمسة سنوات .
وكان إجمالي عددنا في هذا السجن اثنين وستون فردا من الإخوان المسلمين يمثلون تقريبا نصف أعضاء مكتب الإرشاد وثلث أعضاء مجلس الشورى العام للجماعة وآخرين .
وكانت هذه المحاكمات على أثر اجتماع مجلس الشورى العام لانتخاب مكتب الإرشاد في ديسمبر 1994 ، ولقد كابدنا خلال هذه الفترة كل أشكال الصعاب نحن و أهلنا ، من حيث التضييق الشديد داخل السجن ، وقلة زيارات الأهل ، والتي لم تكن تتجاوز الدقائق المعدودة كل ثلاثة أسابيع على الأقل ، و عدم الاهتمام بالمرضى مما أدى إلى وفاة أحدنا داخل محبسه بعد استغاثات كثيرة للإدارة دون جدوى ( تم نقله إلى مستشفى سجن المنيل فمات من فوره هناك و القيد الحديدي بيده موصولا بسرير المستشفى ) ، وهو الأستاذ المرحوم (عبد الفتاح عبد الرحمن ) نقيب المعلمين بالفيوم .
وغير هذا الكثير جداً جداً مما تضيق به الصفحات حيث عانى أبنائنا و زوجاتنا قسوة غياب الأب والزوج و قلة ذات اليد و غلق مقار أعمالنا ومصادر أرزاقنا و قطع المرتبات و مشقة السفر كل زيارة ، و كان الأولاد أطفالاً صغاراً في هذا الوقت ، يمشون قرابة الثلاثة كيلو مترات من أمام بوابات السجن الرئيسية إلى سجن الملحق ذهاباً و إياباً ، بالإضافة إلى ما كنا نعانيه نحن من التضييق الشديد داخل السجن سواءً في الفسحة أو العيادة أو الطعام و الشراب ...... الخ .
وهناك من قصص المعاناة لنا ولأسرنا ما تضيق به الصفحات ، إلا أن أفضال الله عز وجل علينا كانت لا تحصى فهانت علينا الصعاب واختصر لنا الزمن اختصارا .
( نظام مبارك وعلماء مصر)
و من العجب العجاب أن يتعمد نظام مبارك إهانة علماء مصر و مفكريها .
فلقد كان من ضمن من سجن معنا في هذه القضية العسكرية:
(1) الأستاذ الدكتور:- محمود العريني -72 عاما – عميد كلية الزراعة جامعة الأزهر و أستاذ علم الأراضي و الذي استضافته السعودية ليزرع بها القمح و يحقق لها الاكتفاء الذاتي و يصدَّر منه للخارج .
بينما استضافه نظام مبارك في السجون و المعتقلات.
و من المضحكات المبكيات أن تراه هو و إخوانه يجلسون على أرض السجن لعمل السلطه أو كنس الزنزانة ، و هو في هذه السن .
و في أحد مرات الترحيل من السجن إلى المحكمة العسكرية ، بعربة الترحيلات أخذ السائق فرملة قوية و سريعة ، فتدحرج الأستاذ الدكتور من أول السيارة إلى آخرها و كان مربوطا من يده بقيد حديدي مع عسكري أمن مركزي ، فأغمي على الجندي نتيجة شدة الإعياء والضعف والجوع و رفض ضابط الترحيلة فك القيد ليحرر الجندي المغمى عليه من يد الدكتور إلا في القفص داخل قاعة المحكمة ، واضطر زملاء الجندي لحمله على أعناقهم ، حتى أوصلوه إلى داخل القفص ثم قاموا بفك القيود من يده حتى لا يهرب الأستاذ الدكتور محمود العريني ذو الاثنتين و السبعون عاما من قاعة المحكمة المدججة بالسلاح و الحراسة .
(2) الأستاذ الدكتور :- عبد الحميد الغزالي – أستاذ الاقتصاد الإسلامي و الذي حاضر في أكثر من خمسين جامعة في كل أنحاء العالم و نظرياته ما زالت تدّرس حتى الآن في كل هذه الجامعات بكل اللغات فمكانته عند نظام مبارك هي السجون المظلمة بتهم ملفقة زورا و بهتانا .
(3) الأستاذ الدكتور :- محمود حسين – أستاذ الهندسة المدنية و الذي حاضر في كليات الهندسة في أوروبا و أمريكا و له أبحاث علمية منشورة في كثير من المجلات العلمية العالمية .
(4) الأستاذ الدكتور :- محمود عزت – الأستاذ بكلية الطب و صاحب الأبحاث الطبية في مجال تخصصه ( الباكتريولوجي ) و الذي أشرف على عشرات من رسائل الماجستير و الدكتوراه .
(5) الأستاذ الدكتور :- محمد حبيب – أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة أسيوط و الذي دِرست أبحاثه بجامعات أمريكا و أوروبا و صاحب أكبر دراسة علمية عن الاستشعار عن بعد في تحديد أماكن و نوعيات الصخور و المعادن .
(نظام مبارك وكبار السن والمرضى)
و كان مما أثر فينا بشدة موقف النظام الفاسد المستبد و جهاز أمنه المجرم من بعض المرضى و كبار السن من الإخوان المسلمين الذين حبسوا معنا في هذه القضية .
وكان منهم :- الحاج حلمي حمود – من إخوان بور سعيد و كان يبلغ من العمر حين تم القبض عليه في هذه القضية 85 سنة و كانت التهمة التي وجهت إليه في المحكمة العسكرية و استحق بسببها الحبس لمدة ثلاث سنوات كاملة هي ( العثور على مسطرة مكتوب عليها : الإسلام هو الحل في منزله وحِرزت ضمن الأحراز ) أما التهمة الأخرى فهي ( قدرته على حل مشاكل الجماهير في بور سعيد مما يسمح له بالتغلغل بينهم ونشر الأفكار الإخوانية ) ، و لعلكم تندهشون حينما تعرفون أن هذه هي التهم التي حبس بسببها رجل في مثل هذا السن و هذه الظروف الصحية أو تظنون أنني أبالغ .
و لكن تستطيعون أن ترجعوا إلى سجلات القضية لتتأكدون بأنفسكم من صدق ما أقول و من فجر الخصومة عند هذا النظام المجرم .
أما النموذج الثاني فكان الأستاذ : عيسى عبد العليم والذي كان يبلغ من العمر خمسة و ستين عاما ، وهو خبير بالتربية والتعليم ، و قد قبض عليه من بلده سوهاج بعد أن أجريت له عملية قلب مفتوح لتغير شرايين القلب ، وذلك قبل القبض عليه بأسبوعين و كان شديد الإعياء و مازال في طور النقاهة ولا يستطيع أن يقف على قدميه من شدة التعب وخشي ضباط أمن الدولة أن يموت في الطريق فطلبوا من قيادتهم بالقاهرة ( اللواء صلاح سلامة ) استثناءه من هذه القضية أو استبداله بآخر من الأخوان يتحمل ظروف السجن إلاَّ أن هذه الطلبات رفضت وأصروا على القبض عليه شخصيا ، و لما كان هذا هو موقف القيادة وكان يستحيل نقله في عربة الترحيلات فأعاد الضباط الطلب بالسماح لهم بنقله في سيارة إسعاف إلاَّ أن هذا الطلب رفض أيضا و تم نقل الرجل المريض ذو الخمسة و الستون عاما في عربة الترحيلات التي لا تصلح لنقل الحيوانات فضلا عن نقل المرضى و انتقل الرجل إلى السجن ليحكم عليه بثلاثة سنوات يقضيها كاملة في سجون المجرم حسني مبارك ( صاحب القلب الرحيم ) .
أما النموذج الثالث والرابع فهما : الحاج محمود أبو ريه – (75) عاما من المنصورة ، و الأستاذ محمد العريشي – الخبير بالتعليم (65) عاما فقد كانا رحمهما الله يعانيان من التهاب الكبد الوبائي و تليف كامل بالكبد و كانت تنتاب كل منهما نوبات من الغيبوبة الكبدية و القيء الدموي في فترات المحاكمة و طوال فترة السجن ، هذا عدا الاستسقاء الشديد بالبطن والشحوب الدائم .
و من العجيب أن أحدهما و هو الأستاذ العريشي أصيب بالغيبوبة الكبدية في داخل القفص أثناء إحدى جلسات المحكمة ، و لم يشفع له ذلك من تخفيف الحكم عليه أو خروجه براءة فحكم عليه القاضي العسكري بالسجن ثلاث سنوات قضاها كاملة و كنا نقوم على تمريضهما داخل الزنازين رغم قلة الإمكانيات و خطورة الحالات .
و لقد أرسلنا استغاثات كثيرة للسادة المسئولين ( أصحاب القلوب الرحيمة ) للإفراج عنهم أو تقليل فترة العقوبة أو الخروج بعفو صحِي كما يتم مع عتاة المجرمين و لكن لا حياة لمن تنادي .
و النماذج كثيرة في هذا الشأن و لكن يضيق المجال لذكرها كلها .
وخرجنا من السجن بعد قضاء ثلاثة سنوات كاملة 36 شهراً كاملاً ، وخمسة سنوات كاملة لخمسة من إخواننا وهم :- (د/ محمود عزت ، م / خيرت الشاطر ، د/ عصام العريان ، د/ عبد المنعم أبو الفتوح ، د/ محمد حبيب) و بعدها تم نقلي إلى مقر أمن الدولة بطنطا ثم أمن الدولة بالمحلة الكبرى حيث جرى معي تحقيق طويل و مستفز من ضابط أمن الدولة المدعو ( ياسر الحاج علي ) حيث هددني بإعادتي إلى السجن ، و أنا مقيد أمامه و معصوب العينين ، كما رفض السماح لي ـ حتى بدخول الحمام حتى الساعة الواحدة صباحاً ـ و تم عرضي أيضاً على رئيسه : المدعو ( محمد عيسى ) .
و بعد كل هذا العناء أطلقوا سراحي لأعود في نهاية هذه السنوات الثلاث إلى منزلي وزوجتي الصابرة المحتسبة وأولادي الصغار.