بقلم : السعيد الخميسي :


· إذا كانت الأسماك تتنفس تحت الماء ... فإن كذب هولاء قد أحاط بالأرض من كل جانب , إحاطة السوار بالمعصم , حتى ملأت سحائبه الداكنة السوداء الفضاء , حتى وصل لعنان السماء بلا خشية أو إحساس أو حياء . إنهم يكذبون فى الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب . إنهم يعيشون على الكذب , وينامون على الكذب , ويستيقظون على الكذب , ويرتزقون من الكذب , ويرتدون رداء الكذب الذى هو أكثر خداعا من لمعان السراب . إن وجوههم من كثرة الكذب اسودت , وأعينهم من شدة الكذب ابيضت , وأرجلهم من كثرة السير فى طريق الكذب التوت واعوجت , وأيديهم من ثقل أحمال الكذب انشلت . إنه الكذب الذي منه ينفقون سرا وعلانية بالليل والنهار في ملاهي الشيطان الليلية والتي تسمى الفضائيات . إذا نظرت إلى أحدهم وهو يثرثر بالكذب تشعر وكأنك تغوص فى تلال من كثبان الرمال المتحركة من حولك . إنه الكذب بضاعتهم الرخيصة . قال حكيم : الكذاب والدجال والمتملق يعيشون على حساب من يستمعون إليهم , وقد وجد هولاء من ينصت إليهم بإذن واعية , فازدادوا فى غيهم وكذبهم وضلالهم .

* إن الكذب الذي تنطق به ألسنتهم ليل نهار يهدف إلى تزييف الحقائق , وإشعال الحرائق فى ثوب الحقيقة حتى يحترق ويصير رمادا تذروه الرياح تحت أقدام الكذابين والدجالين والمتملقين . إنهم لا يعلمون أن الحقيقة العارية أفضل من أجمل كذبة لباسا . إنهم يفضحون أنفسهم بأنفسهم . فمن علامات الكذب " زيغ البصر " فالكذاب يتعمد دائما إزاغة بصره أثناء الكلام , فترى بصره مثل كاميرات التصوير تجول وتصول وهى ثابتة فى مكانها . ومنه أيضا " التكلف العصبي " فيميل الكذاب إلى تكلف منظر الجاد الصادق الحازم لاسيما فى ملامح وجهه ليخدع الناس , إلا أنه يكشف نفسه ببعض الحركات اللا إرادية كمسح النظارة ولمس الوجه والأنف . ومنه أيضا " التكرار الممل " يميل الكذاب إلى استخدام نفس الكلمات مرات متتالية وكذلك نفس المبررات ليقنع بها غيره , لكنه يسقط فى بئر الكذب من تلقاء نفسه . ومنه أيضا " الاستخفاف بالآخرين " فهو يميل إلى ينسب للآخرين تصرفات وأقوال رديئة لا تليق بهم لإبعاد شبهة الكذب عن نفسه . ومنه أيضا علامات الكذب " النسيان "إن الكذاب سريع النسيان وقد يفضح نفسه بنفسه من كثرة مواقف الكذب التي عاشها فى حياته . الكذاب أكذب من لمعان السراب فلا تصدقوه وان تعلق بأستار الكعبة......!.

* إن خطر تلك النخبة الكذوبة التي تتصدر المشهد , لا يتمثل فى الكذب بالكلمات , بل الأخطر منه , هو الكذب بالصمت , لان الصمت من علامات الرضا . الصمت على كل خطا , وكل جريمة , وكل موقف فيه قلب للحقائق . والأخطر من الاثنين معا , هو الكذب بالخداع , أعنى بذلك تصدير قضايا هامشية شكلية تافهة , وشغل الرأى العام بها صباحا ومساء . ولا أدل على ذلك من القضية " العكاشية " وكأنها قضية القضايا وأصل الخطايا لمجرد صرف الأنظار عما هو أهم وأخطر فيما يتعلق بمستقبل البلاد والعباد . قال الإمام على :" الغوغاء إذا اجتمعوا ضروا , وإذا افترقوا نفعوا . فقيل له : علمنا مضرة اجتماعهم , فما منفعة افتراقهم ..؟ قال : يرجع أهل المهن إلى مهنتهم فينتفع الناس بهم . كرجوع البناء إلى بنائه , والنساج إلى منسجه , والخباز إلى مخبره . الشاهد فى هذا أن اجتماع هولاء الكذابين فيه مضرة للمجتمع , ولو أنهم تفرقوا لانتفع بهم المجتمع لأنهم يمتهنون وظيفة ليسوا أهلا لها . فلا هم إعلاميون , ولا هم صحفيون , ولا هم كتاب محترمون . هم تسلقوا تلك المهن على أكتاف الغير من باب المحسوبية والوساطة والرشوة . ولو تفرقوا لعلم كل واحد مهنته الأصلية وعاد إليها غير مأسوف عليه بعيدا عن الأضواء وتوجيه الرأي العام .


* يقول الشاعر : احفظ لسانك أيها الإنسان... لا يلدغنك إنه ثعبان . كم فى المقابر من قتيل لسانه .... كانت تهاب لقاءه الشجعان . ولما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت قيل له : ألا تتكلم..؟ قال : الكلام صيرني فى بطن الحوت . وقال الحكماء : من نطق فى غير خير فقد لغا , ومن نظر فى غير اعتبار فقد سها , ومن سكت فى غير فكر فقد لها . وتلك النخبة الكاذبة يمثلون اللغو والسهو واللهو . وقال حكيم أيضا : إذا أعجبك الكلام فاصمت , وإذا أعجبك الصمت فتكلم . وقبل لرجل : بما سادكم " الأحنف " وما كان بأكبركم سنا ولا بأكثركم مالا ..؟ قال بقوة سلطانه على لسانه . وقيل أيضا : الكلمة أسيرة فى وثاق الرجل فإن تكلم بها صار فى وثاقها . وقال عمرو بن العاص : الكلام كالدواء إن أقللت منه نفعك وإن أكثرت منه قتلك . وقال لقمان لولده : يا بنى إن افتخر الناس بحسن الكلام فافتخر أنت بحسن الصمت . ليت شعرى لو أن هولاء يصمتون ويبلعون ألسنتهم ويغلقون حناجرهم بالضبة والمفتاح ليكون المجتمع منهم فى أمن ارتياح .

* إن هولاء الكذابين أخطر على المجتمع من مخلفات المصانع وعوادم السيارات وأكوام القمامة ومستنقعات الماء الراكد الممتلئة بقواقع البلهارسيا والديدان . ألم يأتك نبأ الذي قال : لا يكذب المرء إلا من مهانته أو فعله السوء أو من قلة الأدب.... لبعض جيفة كلب خير رائحة من كذب المرء فى جد وفى لعب . وقال أحد محترفي الكذب قديما : إن لم اكذب انشقت مرارتي ...!. لقد جاء فى الحديث الشريف " ان الكذب يهدى الى الفجور " وهولاء وصلوا لدرجة الفجور والسقوط فى مستنقع الرذيلة الذى لا يبقى ولايذر أى فضيلة قائمة على أصولها . إنهم أبناء وأحفاد مذيع النكسة الذى جعل البحر طحينة وعسل مصفى ولبن لم يتغير طعمه . والحقيقة أن البحر كان ممتلئا بالهزائم والنكسات والمصائب وخيبة الأمل . يدور الزمان دورته وتنشق الأرض شقا عن كذابين ودجالين ومتملقين جدد كالحرباء يتلونون كل لحظة حسب الطقس والمناخ السائد . لكن الله فاضحهم وكاشفهم على رؤوس الأشهاد فى الدنيا قبل الآخرة . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . والله من وراء القصد والنية .

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها فقط ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع