الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مُخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر.

أولاً: التسلسل التاريخي لمسجد أيا صوفيا حتى صدور قرار يوليو 2020م

- تم بناء الكاتدرائية القسطنطينية في الفترة ما بين عام 532م وعام 537م بناءً على أوامر من الإمبراطور الروماني جستنيان الأول.

- بعد فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح في 29 مايو عام 1453م، قام السلطان محمد الفاتح بتحويل الكاتدرائية إلى مسجد "أيا صوفيا".

- في عام 1935م قام مصطفى كمال أتاتورك بإصدار قرار بتحويل المسجد إلى متحف.

- وفي شهر يوليو الجاري 2020م، قامت المحكمة العليا التركية بإلغاء قرار تحويل المسجد إلى متحف وبالتالي يعود المسجد إلى سيرته الأولى، وهذا ما نفذته السلطات التركية بناء على مرسوم لاحق من الرئيس التركي بإعادة تصنيف آيا صوفيا إلى مسجد.

- تم مقابلة الخطوة الأخيرة بانتقادات واسعة من اليونان وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليونسكو ورؤساء الطوائف المسيحيَّة وبعض دعاة العروبة والإسلام في البلدان العربية والإسلامية.

وكان أبرز رد فعل لهذا الحدث التاريخي الهام البيان الذي أصدره بطريرك موسكو وسائر روسيا، كيريل، حيث قال فيه: "اليوم العلاقات بين تركيا وروسيا تتطور ديناميكيا، ويجب الأخذ في الاعتبار أن روسيا غالبية سكانها من الأرثوذكس. وتغيير "آيا صوفيا" بلا شك يترك ألما عميقاً للشعب الروسي"، وختم البيان بقوله: "إن تهديد "آيا صوفيا" هو تهديد للحضارة المسيحية كلها، وبالتالي لروحانيتنا وتاريخنا".

أما بالنسبة لبيان الخارجية الأمريكية، فقد جاء فيه: "نحث حكومة تركيا على الإبقاء على آيا صوفيا كمتحف، ليبقى نموذجاً لالتزامها تجاه احترام التقاليد الدينية والتنوع التاريخي الذي أسهم في الجمهورية التركية، ومن أجل ضمان إتاحته للجميع".

ومن جانبه أكد وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو" أن بلاده لها الحق بالتصرف في "آيا صوفيا" في إسطنبول، لأن المسألة ليست شأناً دولياً بل موضوعاً متعلقاً بالسيادة الوطنية.

ثانياً: مسألة هدم الكنائس أو تحويلها إلى مساجد من منظور الشرع

إن مسألة تحويل الكنائس إلى مساجد في منظور الشرع لا تخضع للأهواء وليست خبط عشواء، وإنما وضع الشرع لها حدوداً ثابتة وضوابط فاصلة .

إن هذه الحدود وهذه الضوابط ترتبط ارتباطًاً وثيقًاً بطريقة فتح المدن الموجودة فيها الكنائس، هل فُتحت هذه المدن صلحًا، أم فُتحت عنوةً !!

1- ما فُتح صُلحًا (مثل القدس) فهو على ما صولح عليه أهله، وذكر في التاريخ الإسلامي العهد الذي كتبه الفاروق عمر لأهل بيت المقدس وهو ما يُعرف بـ (العُهدة العُمرية)، وكان من شروط هذا الصلح إبقاء المقدسات المسيحية على حالها، ولذلك امتنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الصلاة في "كنيسة القيامة" لكي لا تتخذ مسجدًا من بعده.

2- أما ما فُتح عنوةً (مثل القسطنطينية) فقد اختلف أهل العلم في جواز إبقاء معابدهم التي وجدت قبل الفتح بأيديهم:

- فمن العلماء من قال: لا يجوز تركها بأيديهم، بل يملكها المسلمون ويتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه.

- ومنهم من قال: "يُخير الإمام بين الأمرين بحسب المصلحة.

قال الإمام ابن القيم: "وفصل الخطاب أن يُقال: إن الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين، فإن كان أخذها منهم أو إزالتها هو المصلحة لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقلة أهل الذمة، فله أخذها أو إزالتها بحسب المصلحة، وإن كان تركها أصلح لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها تركها" أهـ.

ثالثاً: قراءة في قرار إعادة مسجد أيا صوفيا إلى سيرته الأولى من جوانبه المختلفة

1- من الناحية السياسية: القرار قرار سيادي تركي، تؤيده المعارضة التركية كما تؤيده الأغلبية مما يؤكد أن القرار سيترتب عليه استثمارات سياسية لاحقة لكلا الطرفين.

2- من الناحية القانونية: القرار صدر من المحكمة العليا كأعلى مؤسسة قانونية في البلاد، ثم صادق الرئيس على القرار، وبالتالي تم تنفيذه.

3- من الناحية التاريخية: آخر عهد للمبنى أنه كان مسجداً، ودور المحكمة العليا التي نظرت في الأمر تلخص في إبطال القرار الذي اتخذه أتاتورك بشأن تحويل المسجد إلى متحف والأمر بإعادته لسيرته الأولى، وهذا ما نفذته السلطات التركية بعد ساعة من صدور قرار المحكمة.

4- من ناحية التراث العالمي والمنظمات الدولية: إذا تمت معاملة المبنى على أنه من الإرث الإنساني وأن ملكيته ليست خاصة بدولة معينة، فمن الإنصاف معاملة مسجد قرطبة، وجامع أشبيليا، ومسجد بابري،... وغيرهم عشرات المساجد الأخرى للمسلمين في العالم بنفس المنطق، وهنا ستكون الكفة الراجحة لصالح مُقدسات المسلمين.

    إذا تمت معاملة المبنى على أنه من الإرث الإنساني وأن ملكيته ليست خاصة بدولة معينة، فمن الإنصاف معاملة مسجد قرطبة، وجامع أشبيليا، ومسجد بابري،... وغيرهم عشرات المساجد الأخرى للمسلمين في العالم بنفس المنطق، وهنا ستكون الكفة الراجحة لصالح مُقدسات المسلمين

رابعاً: سؤال ماكر وخبيث

هناك من يحاولون تعكير الصفو وضياع نشوة (النصر) بجدال عقيم وأسئلة سفسطائية لا محل لها من الإعراب.

هناك سؤال ماكر وخبيث يطرحه البعض ويقولون: أيهما أكثر نفعاً للإسلام "إعادة مسجد أيا صوفيا لسيرته الأولى" أم "غلق بيوت الدعارة"؟

ولهؤلاء المتنطعين ضيقي الأفق ومحدودي الفهم أقول:

1- هذا شأن تركي داخلي وأهل تركيا أدرى بمصلحتها ومصلحة الإسلام.

2- من قال لكم أن السلطات التركية تملك رفاهية الاختيار بهذا الخصوص بعد أن رضخت للعلمنة وطمس الهوية ما يقرب من عشرة عقود!

- لو كان الوضع الداخلي مُهيأ ويساعد على إغلاق بيوت الدعارة ما تأخرت السلطات التركية لحظة وهذه المهمة تضعها على قائمة أولوياتها، وكثيراً ما سمعنا رد المسئولين على أسئلة بهذا الخصوص حيث قالوا "نحن لسنا مسؤولون عن الجيل الذي فتحها، ولكننا مسؤولون عن تنشئة الجيل الذي سيغلقها".

- إن القاعدة الفقهية تقول أن (درء المفسدة مُقدم على جلب المنفعة) وبالتالي لو تم اتخاذ قراراً جبرياً بتغيير هذا المنكر لحدث منكر أكبر وردود أفعال تعلمها السلطات وترصدها جيداً.

3- إن القرارات التي تتم بـ (جرة قلم) لا تتم إلا في ظل حكم الفرد، والسلطات التركية لا تريد أن تحمل الشعب على الحق جملة واحده فيتركه الشعب جملة واحدة .

4- افترض أن السلطات التركية اتخذت قرارا بإلغاء تراخيص بيوت الدعارة وتجريم الدعارة فهل هذا سيؤثر في (الدعَّار والدَّاعرات) بشيء؟ أم أنهم سيمارسون الدعارة بعيداً عن رقابة القانون وسيكونون كالسوس الذي ينخر في جسد الدولة؟

5- إن منع الدعارة في تركيا لابد وأن يكون نابعاً من ضمير الشعب نفسه بأن يحارب الشعب الدعارة ويزدري العاملين بها والقائمين عليها، وبهذا تجف منابع الدعارة ويتم اقتلاعها من جذورها.

6- إن معظم الدول لا تعترف في قوانينها بالدعارة تمارس فيها كل أنواع الدعارة حتى الدعارة السياسية، فالأمر ليس في إصدار قانون أو عدمه.

7- لا ننسى أن الشعب التركي قد سيق إلى العلمانية لتتغير هويته وليكره كل ما هو إسلامي وفور وصول أتاتورك وحزبه للحكم في عشرينيات القرن الماضي، قام بـ:

- تعطيل العمل بالدستور الإسلامي والعمل بالدستور المدني السويسري، والقانون التجاري الألماني، والقانون الجنائي الايطالي.
- إهمال التعليم الديني والشرعي وفرض التعليم المختلط بين الذكور الإناث وحظر الحجاب.
- تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف والحد من بناء المساجد ومنع الأذان باللغة العربية.
- استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية.
- وكان مما قاله وهو يفتتح جلسة البرلمان التركي عام 1923م: "نحن الآن في القرن العشرين لا نستطيع أن نسير وراء كتاب تشريع يبحث عن التين والزيتون" (يقصد القرآن الكريم).
كل ذلك لمحو الهوية الإسلامية لتركيا ولينتهي بذلك عهد الدولة العثمانية.

8- إن من يطالبون السلطات التركية بإلغاء الدعارة لو تمت الاستجابة لطلبهم لقالوا أنها الديكتاتورية التي لا تعترف بالحرية، وإنه الإقصاء الذي لا يعترف بالآخر، وإنه الإسلام الذي ينتشر قسراً وبقوة القانون والبطش بمخالفيه.

9- تباً وسُحقاً لأناس لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً في بلادهم ثم تراهم ينتفضون لينتقدوا ويفندوا سياسة غيرهم.

10- لكل هؤلاء المتنطعين وأمثالهم أقول:
- أين كنتم حين قامت اليونان بتدمير (مسجد أشاغة) وبناء موقف للسيارات مكانه، وتحويل (مسجد فينيكي) إلى مزرعة دواجن، وتحويل مسجد (الشهداء الثلاثة) إلى حظيرة للحيوانات، وهدم مسجد (يونس) وبناء حديقة أطفال مكانه، وتحويل مسجد (وليفتيكو) إلى قاعة سينما وقاعة مؤتمرات؟
- وأين كنتم حين تم تحويل (جامع أشبيليا) إلى (كنيسة سانتا ماريا)؟
- وأين كنتم حين تم تحويل مسجد بابري في الهند إلى معبد هندوسي؟
- وأين كنتم حين تم تحويل مسجد قرطبة في إسبانيا الي كنيسة؟
‏- وأين كنتم حين تم تحويل حائط البراق في القدس إلى مبكي يهودي؟

وأخيراً أقول

إن قرار عودة أيا صوفيا قرار سياسي بامتياز ورسالة فهمها المعنيون  بها وهو ما يفسر السِّر في البهجة العارمة للبعض، والغضب الصارخ والانتقادات البالغة من البعض الآخر.

إن مسجد أيا صوفيا يعتبر رمزاً لتحول القوى وبسط السيادة والنفوذ ليس في تركيا وحدها بل في أوروبا كلها ، وسيذكر التاريخ هذا الصنيع للرئيس التركي أردوغان وسيخلد التاريخ اسمه بأحرف من نور كما خلد اسم السلطان محمد الفاتح جنباً إلى جنب.

اللهم كما رددت إلينا مسجد أيا صوفيا رد إلينا المسجد الأقصى وارزقنا الصلاة في رحابه.