28/07/2009

الشجاعة هي قوة في النفس يُنشئها الإيمان الصادق، بثبات القلب والثقة بالله، فيخلو القلب من الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت، "وتقوم الشجاعة أساسًا في ضبط النفس عند مواجهة الخطر، وفي الظروف الأليمة، كما تقوم في مواجهة الظلم والشر بالقول والفعل، وفي التغلب على الصعوبات والأخطار التي تتجاوز المعتاد، وفي احتمال أشد الآلام بصبر وثبات" (1).

 والشجاعة تقترن دائمًا بالخطر على الحياة، وتطلب التضحية بالحياة الفردية في سبيل إنقاذ الخير الأسمى الذي هو الدين والأمة الإسلامية. وباستقراء آيات القرآن الكريم التي أمرت المسلمين بالقتال والثبات يوم الزحف ومجابهة الأخطار يبين أنها إنما أمرت بذلك في سبيل خير أعظم من الحياة، وهو الدين.. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 190)، ويقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)﴾ (النساء)، ويقول: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (النساء: من الآية 84)، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)﴾ (الأنفال).

 ولكي نربي المسلم الشجاع الذي لا يعرف الجبن علينا أن نرسخ في أعماقه الإيمان بالقيمة العليا للدين والأمة، وبالقيمة المتوسطة للحياة الفردية (2).

 تلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستكمن، إنه يضفى على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقًا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخًا في عمله، وإذا اتجه كان واضحًا في هدفه، وما دام مطمئنًا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تعمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلاً إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه بل لا عليه أن يقول لمن حوله﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)﴾ (الزمر).

 هذه اللهجة المقرونة بالتحدي، وهذه الروح المستقلة في العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق.. ذلك كله يجعله في الحياة رجل مبدأ متميزًا، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدهم مخطئين، نأى بنفسه، واستوحى ضميره وحده (3).

 قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يكن أحدكم إمعة. يقول: أنا مع الناس. إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم" (4).

 إن الإسلام يكره للمسلم أن يكون مترددًا في أموره، يحار في اختيار أصوبها وأسلمها.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" (5).

 ومن أفضل الشجاعة: الصراحة في الحق، وكتمان السر وحفظه، والإقرار بالخطأ والاعتراف به، والإنصاف من النفس، والانتصار للغير منها، وملكها عند الغضب، وفي الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (6).

 ويقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) (7).

 وليست الشجاعة مقصورة على حمل السلاح ومشاهدة الحروب، بل إن كثيرًا من الأعمال اليومية يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود؛ فرجال المطافئ والأطباء وعمال المناجم وصيادو الأسماك في البحار عند اشتداد الرياح وتلاطم الأمواج، والممرضات اللائي يتعرضن للأخطار بتمريض المصابين بالأمراض المعدية وربانو السفن، كل هؤلاء وأمثالهم شجعان يتحملون الأخطار كما يتحمل الجنود، ويقابلون الشدائد بصبر وثبات. ومن أكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد، فشجاع من إذا عراه خطب لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات ويتصرف فيه بذهن حاضر وعقل غير مشتت (8).

 وهناك ما يسمى بالشجاعة الأدبية، ونعنى بها أن يبدي الإنسان رأيه، وما يعتقد أنه الحق مهما ظن الناس به أو تقولوا عليه من غضب عظيم، يقول الحق بأدب وإن تألم منه الناس، ويعترف بالخطأ وإن نالته عقوبة، ويرفض العمل بما لا يراه صوابًا.

 صور من الشجاعة

1- شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، لا يبالي بكثرة العدد، ولم يفر من عدو قط، ولم يدبر منهزمًا قط، يقول على بن أبى طالب رضي الله عنه: "كنا إذا اشتد البأس، وحميت الحرب اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنا يوم بدر نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو"، ولقد كان الصحابة يقولون: "إن الشجاع منا للذي يقوم بجانبه يستتر به"، وقيل لأنس رضي الله عنه: أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لكن رسول الله لم يفر، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

"أنا النبي لا كذب    أنا ابن عبد المطلب"

 وجاء في العقد الفريد أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يمتدح الموت قصعًا، أي رمية أو ضربة، ويهجو الموت على الفراش (9).

 2- شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

تظهر شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه جلية في حرب المرتدين ومانعي الزكاة، إذ إنه وقف صامدًا صلبًا قويًّا واثقًا بمعية الله عز وجل حتى قال بعض المسلمين له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طاقة لك بحرب العرب جميعًا.. الزم بيتك، وأغلق بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين!! ولكن الرجل البكّاء اللين الرقيق رحيم القلب، ينقلب في لحظة إلى أسد ثائر، يصيح في عمر بن الخطاب: أجبّار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟ لقد تم الوحي واكتمل.. أفينقضي الدين وأنا حي؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

 3- شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

حياة عمر رضي الله عنه تنمُّ عن شخصية قوية لا تهاب أحدًا، ولا تكتم حقًّا، ويظهر هذا منذ بداية إسلامه، حيث قال: يا رسول الله: علام نخفي ديننا ونحن على الحق، وهم على الباطل فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا قليل وقد رأيت ما لقينا". فقال له عمر: والذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بكفر إلا جلست فيه بالإيمان؛ ثم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في صفين من المسلمين في أحدهما حمزة وفي الآخر عمر.
وعندما أراد أن يهاجر أعلن على الملأ من قريش: من شاء أن تثكله أمه، وييتم ولده فليلقني خلف هذا الوادي، فما استطاع أحد أن يتتبَّعه.

 ونرى هذه الشجاعة واضحة في تعامله مع المنافقين والمشركين.

4- مواقف أخرى لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لما دنا المشركون يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، فقال عُمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله: جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: "نعم"، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يحملك على قول بخ بخ؟" قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها".. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم فما زال يقاتل حتى قُتل (10).

 وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: "إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم: أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه؟ وقال لي آخر سرًّا من صاحبه مثله قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء" (11).

5- نماذج من شجاعة بعض علماء الأمة:

التاريخ مملوء بكثير ممن ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل قوة الحق ونصرته، وصبروا على الآلام عشقًا للحق وهيامًا به، واستعذبوا الرزايا تنزل بهم؛ لأنهم يحبون الحق أكثر مما يحبون أنفسهم، فقد أوذوا في الحق، فتحملوا الأذى وباعوا أنفسهم، وأموالهم مرضاة له.

فأحمد بن حنبل المتوفى سنة 240هـ، عُذب وسُجن فيما يسمى في التاريخ بفتنة خلق القرآن، ولكنه ثبت على موقفه ولم يتزحزح عنه، وابن تيمية أحد الفقهاء المشهورين المتوفى سنة 728هـ، أداه اجتهاده إلى مخالفة فقهاء عصره في بعض المسائل فوشوا به إلى السلطات فسجنه، فظل يكتب الرسائل في سجنه يؤيد بها مذهبه ويدحض بها حجج معارضيه، وفي العصر الحديث ثبت كثير من الدعاة في وجه الطغاة منهم الشهيد سيد قطب حينما حاول النظام الناصري إثناءه عن رأيه وتأييد الرئيس جمال عبد الناصر قال قولته الشهيرة "إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة؛ ليرفض أن يكتب حرفًا يقر به حكم طاغية"، وهناك نماذج كثيرة لا يتسع المقام لذكرها تدل على شجاعة العلماء نصرة للحق وامتثالا لأمر الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأخلاق النظرية، د. عبد الرحمن بدوي، ص 178.

(2) الفضائل الخلقية في الإسلام، د. أحمد عبد الرحمن، ص 157.

(3) خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي، ص 95.   

(4) رواه الترمذي.

(5) رواه مسلم.  

(6) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.

(7) رواه مسلم.

(8) الأخلاق، أحمد أمين، ص 206.

(9) العقد الفريد، ابن عبد ربه، 1/101.        

(10) رواه مسلم وأحمد.

(11) متفق عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[email protected]